أن يحسَّ المرء بأنه مراقب، فهذا أمرٌ مريب ومقلق ومربك، لأنه يخلق إحساساً بالوجود في خانة الشبهة أو الاتهام أو الإدانة. فما بالك لو كانت الرقابة متفاقمة الى درجة أن تنصِّب نفسها"مرجعية"مناطاً بها تحديد ما ينبغي أن تشاهده وتسمعه وتقرأه، كي لا تنزلق ذائقتك ووعيك نحو"مهالك المحظور"أو الممنوع، التي بپ"الضرورة"ستلوِّث سلوكك، بجعله خارج نطاق السيطرة، وپ"المزاج أو السياق العام". وإذا كانت الدراما التلفزيونية"هي الحياة، لكن اقتطعت منها الجوانب المملة"بحسب هيتشكوك، فينبغي عليها أن تكون الصورة الأصدق المعبِّرة عن هموم البشر، ضمن صياغات ومعالجات فنيَّة حرَّة، باعثة على المتعة والجمال. وما عدا ذلك، فهو تحايل وافتراء على الواقع، وخداع للذات والآخر. ترافقت ولادة الرقابة على الدراما السورية، مع ولادة التلفزيون السوري، في حقبة الوحدة بين سورية ومصر، مطلع الستينات. وعليه، فإن التلفزيون كان حكومياً، وخاضعاً لرقابة صارمة. وتعود بداية البلورة الحقيقية للرقابة إبان الوحدة، التي استحدثت وزارةً للثقافة مناطاً بها مهمة الرقابة. وأول قانون للرقابة في سورية صدر سنة 1960، حمل الرقم 409، وما زال ساري المفعول، ولم يفقد صلاحيته بالتقادم، حتى الآن، مع بعض التعديلات الطفيفة التي أجريت عليه سنة 1974. ومن جملة ما نصَّ عليه:"منع عرض الأفلام، عندما يتبيَّن بوضوح أنها تثير النعرات الجنسية أو الطبقية، وتستهين بالروابط العائلية، وتتضمن إثارة للغرائز الجنسية، وتتنافى موضوعاتها مع أخلاق الشعب العربي وتقاليده". وعليه، فقد تضمَّن القانون ثالوث المنع:"الجنس، السياسة، الدين". وعلى رغم ذلك، أنتج التلفزيون السوري، في منتصف الستينات وحتى نهاية السبعينات، أعمالاً مهمة، ضمن السقف المتاح، تميَّزت بجرأتها، عبر دفاعها عن حقوق المرأة، وانتقادها المجتمع الذكوري. ويعزو الناقد والمخرج السينمائي السوري فاضل الكواكبي ذلك الى"المناخ الاجتماعي العام المتحرر والمنفتح الذي بلغ ذروته في الستينات وأوائل السبعينات". يذكر ان بعض هذه الأعمال أوقف عرضه عقب بث حلقات منه، تحت ضغط الشارع المحافظ، كپ"ألوان وظلال"لهاني الروماني، عن نص للقاصّ السوري عبدالعزيز هلال. والبعض الآخر واصل عرضه، بأوامر إدارية، كپ"الوسيط"لهيثم حقي عن نص لؤي عيادة، وپ"أحلام منتصف الليل"لمحمد فردوس أتاسي عن نص لرياض نعسان آغا. ويرى الكواكبي، ان مواصلة عرضها جاء"انعكاساً لسياسات أرادت خلق نوع من التوازن بين الحداثة والمزاج المحافظ المتنامي"وقتها. ونشط القطاع الخاص التلفزيوني في سورية مع ظهور الفضائيات. وبحكم تزاحمها وتنافسها المحتدم على استقطاب المشاهد العربي، انخفض سقف المحظورات. فشهدت الدراما السورية نقلة نوعية، نافست الدراما المصرية حيناً، وتجاوزتها أحياناً. ما دفع وزير الإعلام السوري السابق مهدي دخل الله الى القول:"إن القطاع الخاص هو من صنع الدراما السورية، وليس العام". يومها للتحايل على الرقابة، وكنوع من تجنُّب الممنوع، حاول أصحاب بعض الشركات المنتجة وبعض المخرجين اختلاق صيغ مناوِرة، لا تمسُّ نبض الواقع، عبر أنماط درامية مهجّنة كپ"الفانتازيا التاريخية". وفي رأي الأديب السوري حسن م. يوسف، إن المراد من الدراما"الإمتاع أولاً... والإقناع أولاً، وليس هناك ثانياً". ما يعني أن البهرجة المفرطة، والزخرفية المبالغ فيها، في الفانتازيا التاريخية، قد تخلق الإمتاع، لكنها فاقدة للإقناع. والسؤال المطروح هنا: ألا يدرك الرقيب السوري غرابة الأمر، حين يشاهد العمل الدرامي السوري أو العربي الذي تعرضه الشاشة السورية، بعد أعمال القص والحذف والشطب التي أجراها عليه، معروضاً في شكل كامل على الشاشات الأخرى، بخاصة، في شهر رمضان؟ حينها، هل يبقى هناك جدوى من حرصه على عين ووعي المشاهد السوري في زمن الفضاءات المفتوحة والخيارات الغزيرة؟