يستضيف"القصر الكبير"في باريس معرضاً مهماً بعنوان"الواقعية الجديدة"يتناول التيار الفني الذي ظهر في فرنسا والولايات المتحدة عند نهاية الخمسينات من القرن الفائت كردّ فعلٍ على مجتمع أصبح استهلاكياً وصناعياً أكثر فأكثر، وشكّل قطيعة مع فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي طغى عليها الفن التجريدي. أكثر من 300 لوحة ومنحوتة رتِّبت في شكلٍ تتجلى فيه انجازات هذا التيار على مستوى تجديد اللغات التشكيلية والموضوعات وانخراط أتباعه فرنسوا دوفرِن، سيزار، أرمان، كلاين، جاك فيلوغلي، جان تانغولي، نيكي دو سان فال، كريستو، ميمو روتيللا، مارشال رايس داخل حركة تحديثية عامة تخللتها تبادلات وتأثيرات كثيرة بين مجموعات فنية مثل الدادائية الجديدة وپ"فلوكسوس"وپ"غوتاي"وپ"مجموعة صفر"وپ"البوب آرت". ومن دون إهمال التسلسل التاريخي لظهور الأعمال المعروضة، يقترح القائمون على هذه التظاهرة الفنية الضخمة جمعية المتاحف الوطنية ومركز بومبيدو مساراً يتألف من سلسلة مقاربات موضوعية هدفها إظهار خصوصيات"الواقعية الجديدة"وأهمية الاختبارات التي توالت تحت هذه التسمية حتى نهاية الستينات. وليس صدفة تخصيص الصالة الأولى من المعرض للملصقات الممزقة وصفائح الحديد التي تحمل تواقيع فيلوغلي ودوفرِن وروتيللا، فهذه الأعمال حدّدت باكراً أطر الواقعية الجديدة، وطرح أصحابها، بواسطتها، ومن خلال نصوصهم النقدية والشعرية، مبادئ فنية جديدة مثل الإقرار بعملية إبداعٍ جماعية لا شعورية وحق الفنان في تثبيت نتيجة هذه العملية وتملّكها وعرضها كتحفة فنية. وفي هذا السياق، كتب دوفرِن عام 1958:"الملصقات الممزّقة على يد مجهولين وفي ظروفٍ غامضة هي قمة التعبير الجمالي للاوعي الجماعي والتظاهرة الأكثر تأثيراً لفنٍّ لا يقف وراءه شخصٌ واحدٌ بل الجميع، والحدث الذي يضع موضع التساؤل الأهمية الفردية لهذا الفنان التجريدي أو ذاك". ويتوقف المعرض في هذه الصالة عند تأثّر الواقعيين الجدد باختبارات"الحَرْفيين"lettristes وببعض كتابات أرتو، الأمر الذي يشرح وضعهم اللغة والأداء performance في صلب أبحاثهم. فالفنان روتيللا مثلاً أحيا أولى حفلاته الشعرية الصوتية عام 1952 في جامعة هارفارد. وفي الفترة ذاتها، ابتكر دوفرِن في فرنسا"الصراخ الإيقاعي"، أو الآلي، وشوّه فيلوغلي وريمون هانس قصيدة للشاعر والفنان كميل بريان عبر عرضها خلف زجاجٍ مضلّع. ويطرح تلاعب هؤلاء الفنانين بأجزاءٍ مقتطفة من مشاهد مدينية أو من نصوصٍ مطبوعة مسألة النظرة وقيمتها الفنية، وتشكك أعمالهم الصوتية ومصدر ملصقاتهم الجاهزة وطريقة عرضها بفن الرسم التقليدي وبموقع الفنان وطُرُق تقديم العمل الفني. الصالة الثانية من المعرض تقارب مسألة تمركُز الواقعيين الجدد بقوة خلف إستراتيجياتِ قطيعةٍ تعرّف بهم وتميّزهم داخل المشهد الفني الباريسي. في العام 1961، كتب ريمون هانس:"الواقعية الجديدة ليست مجموعة من الفنانين بل نوعٌ من الأخوية، مجموعة"قياصرة"صغار يتقاسمون العالم كما نتقاسم قالب حلوى. كلاين أخذ اللون الأزرق، كريستو تقنية التغليف، سيزار انفرد بكبس السيارات، أرمان أعاد تأهيل القمامة، واندفعنا أنا وفيلوغلي وروتيللا الى الملصقات الممزقة في الشوارع. مع الواقعيين الجدد، نمرّ من عالم فن الرسم إلى عالم الحقيقة حيث الفنان يتوقف عن فبركة أعمالٍ فنية ليصبح بذاته تجريداً مشخصناً". ولأن"الفعل الاستعراضي"happening شكّل جزءاً مهماً من نشاط هذا التيار، يكشف المعرض في قاعته الثالثة عن مجموعة أفلامٍ وأعمالٍ فنية تبيّن مغادرة الواقعيين الجدد جدران محترفاتهم لاستقاء مادة أعمالهم الفنية من الشارع، ولكن أيضاً لتنظيم أحداثٍ ذات طابع طقوسي قوي غايتها إثارة مشاركة الجمهور المباشرة والعفوية. وفي هذا السياق، نشاهد في أحد الأفلام كلاين وهو يرسم لوحاته بريشةٍ خاصة وحيّة: جسد المرأة، أو كريستو وهو يحوّل معالم فضاءٍ مديني عبر إغلاقه طريقٍ بواسطة جدار من البراميل، كما نشاهد تجهيزات نيكي دو سان فال "حقل رماية" وتانغولي "آلات راسِمة" ودانييل سبورّي "وَجبات" التي شكّلت الأساس الأول للفنٍّ التفاعُلي interactif. الصالة الرابعة تحمل عنوان"حوارٌ مع مارسيل دوشان"وتستحضر بالتالي تأثّر معظم الواقعيين الجدد بهذا العملاق وبمفهوم"الفن الجاهز"، من خلال مجموعة أعمالٍ حققها أصحابها في شكل تكريمٍ مباشر له، مثل منحوتات تانغولي المشكّلة من عجلات درّاجة و"وَجبات"سبورّي الملغومة ومنحوتة أرمان"رقعة شطرنج". ونشاهد في هذه الصالة أيضاً أثر الدادائية العميق في الفنانين الثلاثة المذكورين الذين اعتمدوا في معظم أعمالهم سخرية ذات طابع سوداوي، وفي دوفران وروتيللا وفيلوغلي الذين اهتموا بالأداء الصوتي والشعري وطوّروه. وتسلّط الصالة الخامسة من المعرض الضوء على حجم التبادلات بين الدادائيين الجدد الأميركيين والواقعيين الجدد في فرنسا وعلى مسألة انتماء التيارَين إلى"طائفة"روحية واحدة استخدمت القمامة مادة لفنها وقطع خردة وأشياء كثيرة خارج نطاق وظيفتها التقليدية، وحاورت الفنانين التجريديين في شكلٍ ساخر وجدلي. وفي هذا السياق، يتوقف المعرض عند التظاهرات الفنية الكثيرة التي جمعت فناني التيارَين، في باريس أولاً ثم في نيويورك، وأبرزها مشاركة روبرت راوشنبرغ وجاسبر جونس في حفلة جون كايج الموسيقية عام 1961 إلى جانب تانغولي ونيكي دو سان فال، ومعرض"الواقعيين الجدد"خلال السنة ذاته، ثم معرض"فن التوليف"الذي نظّمه متحف الفنون الحديثة MoMA في خريف 1961، والمعرض الجماعي الشهير في غاليري"سيدني جانيس"1962 الذي انطلق فيه أسلوب"البوب آرت". ولأن الغرض العادي يقع في صلب المسعى الفني لتيار الواقعية الجديدة، خُصصت الصالة السادسة والأخيرة من المعرض لطُرق استخدامه المختلفة. ففي منحوتات أرمان مثلاً نلاحظ مبدأ تعظيم حجم الشيء الممثَّل وفقاً لمنطق أو خصوصيات المادة المستخدمة. وفي فضاء لوحات ديديي ديشان نشاهد أشياء مختلفة تلعب دور المادة الرسامة واللون، في حين أن المقصود بها التشكيك أو الاستهزاء بالمعنى التقليدي للوحة، على الطريقة السريالية أو الدادائية. وباختصار، يعكس هذا الفيض من الأعمال المعروضة كما هي أو المحوَّرة موقفاً نقدياً مثيراً وجديداً من التحولات العميقة لمجتمعٍ استهلاكي في أوج نموّه.