توفي أخيراً بيير ريستاني أحد أبرز نقاد الفن التشكيلي في القرن العشرين. جمعنا آخر لقاء منذ عامين من خلال ندوة "موسم أصيلة" حول العولمة الفنية، وكان يأمل بأكثر من مشروع بخصوص الفن العربي. سطع نجمه ابتداء من عام 1960، تاريخ إعلانه "بيانه" النقدي الأول، الذي يبشر به بقصيدة تيار "الواقعية الجديدة"، اجتمع حوله عدد من الفنانين المعروفين في حينه، متحلقين في معرض ميلانو البينالي، شارحاً البيان المذكور ان التيارات تمخضت عن تجاوز تقاليد "فن اللوحة" والسطح التصويري الى مادة المجتمع، والمعاش واليومي وحتى الاستهلاكي منه. نتعرّف على تفاصيل بشارته من خلال تجارب الفنانين الذين اختارهم آنذاك أو الذين لحقوا بركبه بعد سنتين: بعضهم استثمر الجسد الإنساني الواقعي كما هي تبصيمات إيف كلين للنماذج العارية الحية على الجدار، بعد صبغها بالأزرق النيلي. وبعضهم أعاد استثمار شظايا الإعلانات الورقية المتراكمة على جدران المدينة الصناعية وأروقة المترو كما هي حال هين ودوفوين وفيللوغلي، وحافظ البعض الآخر على المستهلكات اليومية، يستعيدها ملصقة أو مصبوبة مثل آرمان وسيزار، وبعضهم استرجع آلية الايقاع الحركي الشيطاني كما هي منحوتات تانغلي، أو متحركات الصور المبتذلة لدى نيكي، أو إعادة تعليب العالم مهما كان عملاقاً، مثله مثل منتجات السوبر مارشيه، على غرار كريستو، ابتدأ بتغليف المستهلكات بأوراق "الانبلاج"، وانتهى الى تغطية "الشاطئ الأطلسي" أربعين كيلومتراً، وبناء "الرايخ" وجسر "البونت نوف" بالأقمشة الهائلة. يجتمع هؤلاء - على تباعد أساليبهم - بالنسبة الى ريستاني على استعاضة تقاليد صورة العالم ودلالاته في تقاليد "لوحة الحامل" بإعادة استخدام مادة الواقع نفسها، وتغيير وظائفها التخيّلية، وفق حساسية الفنان. وهكذا استبدلت أواني موراندي التي كان يصوّرها في اللوحة، بلصق الأواني نفسها بعد تمريرها تحت المكبس المعدني لتصبح نحتاً يحمل توقيع سيزار، وما تحمله هذه الانتقالة من عبث وسخرية يجعل بالنسبة الى ناقدنا ان تمثال اصبع "الباهم" الشخصي لسيزار بمثابة الحفيد الشرعي لفكرة مارسيل دو شامب إعادة استخدام العناصر اليومية الجاهزة في العادة الذوقية ريدي ماد، مع تغيير منحى هذه العادة في اتجاه لا يخلو من العبث، هو ما عرف منذ بداية القرن العشرين ب"الدادائية"، وهو التيار الذي فرّخ في نيويورك ما بعد الحرب اتجاهين: "الدادائية المحدثة" و"البوب الأميركي". نصل هنا الى إعادة التماع نجم الناقد ريستاني عام 1962، عندما جابه بمعرض نيويورك الذي جمع فيه فنانيه، رواد البوب الأميركي وهم في ذروة تألقهم على غرار آندي وارهول وروشنبرغ. لم تكن تخلو هذه المجابهة من إعادة الوعي لدى الطرفين. حتى اننا اليوم نعثر على تداخل عضوي منذ ذلك التاريخ بين حساسية بعض فناني "الواقعية الجديدة" الفرنسية - الإيطالية ونزعة "البوب" الأنكلو - ساكسونية. فقد تحول في نيويورك الفنان الهندسي "ستيلا" من "المنيمالية" الى استخدام ملصقات المعادن الاستهلاكية. ولا تخفى على العين المدربة اليوم تأثيرات البوب الشعبي في المستهلكات المبتذلة التي يستخدمها كل من تانغلي ونيكي وآرمان. تتجاوز سلطة هذا الناقد قوة جاذبيته الشخصية وعمق كتاباته، الى ما هو أهم من ذلك، الى رؤيوية منهجه وطريقة قراءته تاريخ الفن المعاصر بنظرة ثاقبة وحساسية تستشرف تيارات الغد، ومدى بقاء التيارات الراهنة على الاستمرار، هو في "بيان ميلانو" لم يفرض على نرجسية فنانيه نظرياته النقدية، بقدر ما استنبط من وحدة حساسيتهم أطروحة "الواقعية الجديدة"، بدليل انه لم يجمع تجاربها في كتاب إلا قبل ثلاث سنوات من وفاته، والكتاب نافد من المكتبات العامة تحت عنوان: "نحو واقعية جديدة". تم حفل توقيع الكتاب في إحدى أمسيات "مهرجان الفياك" بعد محاضرة مثيرة لخّص فيها تجربته عبر نصف قرن. يرجع الى ريستاني فضل ربط مهمة الناقد الكتابية والثقافية بالمهمة التنظيمية التي عرفت باسم "القوميسير" أو المفوض العام، هو الذي يتيح الفرصة للناقد بلعب دوره في الدورة الاقتصادية والتسويقية والدفاع عن مجموعة الفنانين الذين يتبنى عقيدتهم التشكيلية. أصبح من المألوف بعد ذلك أن يقوم القوميسير بالمهرجانات العالمية الكبرى، والمحرك الأساس في توجهات المزادات العلنية والتواصل مع الصالات وأصحاب المجموعات. الواقع أن نجاح "معرض نيويورك" المذكور يرجع الى سلطة تواصل ريستاني مع تجار اللوحات الأميركيين. ما زال دور "القوميسير" غامضاً في المهرجانات التشكيلية العربية. فالتواصل والدعوات في "بينالي القاهرة" أو "بينالي الشارقة" تتم مع الفنانين أو الدول، وليس مع "القوميسير" الذي يقود الحركات الشابة أو التجديدية، فيؤلف جناحاً كاملاً في هذه المعارض. هذا هو سر نجاح الجناح الإسباني كل سنتين في "بينالي القاهرة". قد يرجع السبب في غياب دوره لدينا الى عدم تشجيع وزارات الثقافة في الأنظمة العربية الأحادية مبادرات النقاد والجماعات الفنية. هو ما يعني اننا استعرنا من الغرب صيغة اللوحة من دون تقاليد انتشارها، كمن يستورد القطار من دون سكته الحديد.