يتميّز البلقان باحتضان تجربة مهمة في العالم الإسلامي ألا وهي وجود مؤسسة مستقلة (أو يفترض أن تكون كذلك) تمثل المسلمين أمام دولة بغالبية مسيحية أو علمانية، وترعى شؤونهم الدينية (تعيين الأئمة ورعاية الجوامع) والثقافية (إنشاء مدارس وكليات جامعية وإصدار مجلات) والاجتماعية (تقديم المساعدة للمحتاجين). وقد بدأت هذه التجربة مع البوسنة في 1883 بعد أن أضحت خاضعة للنمسا والمجر وتوسّعت مع تشكل مملكة يوغسلافيا في 1918 حيث أصبحت تمثل المسلمين في كل أرجاء الدولة (بشناق وألبان وأتراك)، واستمرت هذه المؤسسة بتمثيل المسلمين بعد تشكّل جمهورية يوغسلافيا تحت حكم الحزب الشيوعي في 1945. وعلى هذا النحو أيضاً برزت مؤسسات مشابهة في الدول المجاورة (ألبانيا وبلغاريا واليونان). وبالمقارنة مع يوغسلافيا الملكية تلونت هذه المؤسسة مع يوغسلافيا الفيديرالية فأصبحت تتكون من مشيخات تمثل إلى حد ما الجمهوريات القائمة على أساس قومي، ولذلك فإنها استقلت عن «المؤسسة الأم» كما استقلت الجمهوريات عن «يوغسلافيا الأم». وبرزت مؤسسات إسلامية «مستقلة» تعزز استقلال البوسنة ومكدونيا وكوسوفا، في حين أنه بعد انفصال الجبل الأسود عن صربيا في 2006 «استقلت» المؤسسة التي تمثل المسلمين في الجبل الأسود وأصدرت صربيا في 2007 بعد أن غدت وحدها قانوناً للمؤسسات الدينية يحتم وجود مؤسسة واحدة تمثل كل ديانة. ولكن الصراع على تمثيل المسلمين في صربيا (حوالى 3 في المئة من مجمل السكان)، والتباين بين الداخل والخارج أدى إلى انقسام المسلمين مؤسستين متصارعتين: «الجماعة الإسلامية الصربية» بزعامة رئيس العلماء آدم زيلكيتش التي تتخذ من بلغراد مقراً لها و «الجماعة الإسلامية في صربيا» التي تتخذ من نوفي بازار (عاصمة السنجق) مقراً لها. وعلى حين أن الأولى (التي يقودها «رئيس العلماء» زيلكتيتش) كانت تحظى بدعم الدولة باعتبار أن ولاءها لصربيا كانت الثانية برئاسة الشيخ معمر زوركوليتش تعتبر نفسها تابعة للمركز الروحي للبشناق (ساراييفو) و «رئيس العلماء» هناك الشيخ مصطفى تسريتش، مما جعل الخلاف والصراع بينهما مجرد انعكاس للعلاقات السياسية غير المستقرة بين بلغراد وساراييفو. ومع تحسن العلاقات بين تركيا الأردوغانية وصربيا خلال سنوات «تصفير المشاكل» سعت أنقرة إلى أن يكون مسلمو صربيا قاعدة للعلاقات الجديدة مع بلغراد، على اعتبار أن «الإسلام التركي» أضمن لصربيا من «الإسلام الراديكالي» الجديد الذي أخذ يفد إلى صربيا من الخارج، وأوشكت في 2011 على توحيد الجماعتين المتصارعتين في جماعة واحدة تمثل المسلمين أمام الدولة، بشرط ألا يترشح لرئاستها زيلكيتش ولا زوركوليتش، إلا أن هذا الأمر فشل في اللحظة الأخيرة لاعتبارات خارجية. ونظراً لأن الشيخ زوركوليتش فقد الدعم الأكبر من البوسنة بعد أن انتهت ولاية «رئيس العلماء» مصطفى تسريتش في صيف 2012 وغادر إلى الأردن للعمل في إحدى الجامعات، يلاحظ أن الدور التركي الجديد دفع زوركوليتش إلى إصدار بيان عنيف في 28 آب (أغسطس) الماضي يتهم فيه تركيا باستقطاب أنصاره من خلال دفع رواتب شهرية مغرية لهم (500 يورو). أما الوضع في جنوب صربيا المجاور لكوسوفو، حيث الغالبية العظمى من المسلمين من الألبان، فهو يشابه بقية صربيا. فعلى رغم أن عدد المسلمين هناك لا يتجاوز مئة ألف يتوزعون على ثلاث محافظات (بريشيفو وبويانوفاتس ومدفيجا) إلا أنهم من الناحية المؤسساتية أصبحوا ينقسمون بين ثلاث مؤسسات تدعي كل واحدة تمثيلهم بالإضافة إلى الجماعة الراديكالية الصغيرة التي جاءت بأفكارها من الخارج. فهناك قسم من المسلمين يتبع «رئيس العلماء» زيلكيتش باعتباره يملك سلطة تعيين المدرسين لتدريس مادة «التربية الدينية» في المدارس الحكومية، وهناك «مجلس» للمسلمين يتبع «الجماعة الإسلامية في كوسوفو» التي تعتبر هذا الإقليم امتداداً ل «جمهورية كوسوفو» من الناحية الإثنية والدينية، على حين أنه تأسست أخيراً جماعة ثالثة مستقلة عن بلغراد وبريشتينا (الجماعة الإسلامية لبريشيفو وبويانوفانس ومدفيجا) برئاسة الشيخ نجم الدين صاقب الذي أصدر في 29 آب الماضي بياناً قويا دان فيه «التدخل الخارجي»، وبالتحديد تدخل «الجماعة الإسلامية في كوسوفو» في «التنظيم الديني لوادي بريشيفو. الأنظار تتجه في الأيام الأخيرة إلى «الجماعة الإسلامية في كوسوفو» التي تمثل المسلمين في دولة بغالبية مسلمة كبيرة (95 في المئة) بسبب الخلافات بمناسبة الانتخابات في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل التي تعكس التداخلات السياسية والخارجية أيضاً. وتجدر الإشارة إلى أن رئيس «الجماعة الإسلامية في كوسوفو» الذي يحظى بلقب المفتي العام يجرى انتخابه من قبل «المجلس الأعلى» الذي يضم ممثلين للأئمة والعاملين في المعاهد التعليمية التابعة للجماعة (كلية الدارسات الإسلامية والمدرسة الشرعية) لمدة 5 سنوات ولفترتين متتاليتين بحسب «دستور الجماعة الإسلامية في كوسوفو» الذي أقرّ في 2002 وانتخب على أساسه الشيخ نعيم ترنافا خلفاً للشيخ رجب بويا (القائم بأعمال السفير الكوسوفي في الرياض حالياً). وقد بدأ التصدع داخل المؤسسة بشكل مفاجئ في شهر رمضان المنصرم عندما لمّح الشيخ ترنافا إلى رغبته في التمديد لولاية ثالثة، بينما عارض ذلك بشدة جابر حميدي رئيس «المجلس الأعلى» والأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية على اعتبار أنه يتعارض بشكل صريح مع دستور الجماعة وأعلن نفسه مرشحاً للانتخابات المقبلة. ونظراً لأن مشاركة الشيخ ترنافا في الانتخابات المقبلة تتطلب تعديل الدستور، وهذا لا يمكن إلا من خلال «المجلس الأعلى»، فقد رفض د. حميدي طلب أنصار الشيخ ترنافا إدراج تعديل الدستور في بند «ما يستجد من أمور» في اجتماع «المجلس الأعلى» الذي عقد في 20 آب الماضي وأعلن اختتام الاجتماع بعد ثماني ساعات من النقاش المتوتر في حماية الشرطة الكوسوفية. إلا أن أنصار الشيخ ترنافا بقوا مجتمعين وأعلنوا عزل د. حميدي عن رئاسة «المجلس الأعلى» وهو ما اعتبره د. حميدي بمثابة «انقلاب» على الشرعية، مما جعل الخلاف بين الطرفين ينتقل للخارج ويستقطب المؤيدين والمعارضين لكل طرف. وفي الحقيقة يبدو أن الخلاف لم يعد داخلياً بل سياسياً وخارجياً أيضاً يعكس الاستقطاب السياسي في كوسوفو والتنافس الخارجي على الإسلام في كوسوفو. فعندما كان حزب «الرابطة الكوسوفية الديموقراطية» الذي أسسه إبراهيم روغوفا يمثل الحزب الرئيس في كوسوفو كان هناك تناغم مع الشيخ رجب بويا، بينما عندما تولى الحكم «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» برئاسة هاشم ثاتشي زاد تأثير الحزب خلال وجود الشيخ ترنافا على رأس المؤسسة، وهو ما يمكن إدراجه في سعي الحزب خلال السنوات الأخيرة للسيطرة على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومنها «الجماعة الإسلامية في كوسوفو». ومن هنا يلاحظ في وسائل الإعلام الكوسوفية ومنظمات المجتمع المدني أن د. جابر حميدي يحظى بدعم المجتمع المدني لكونه يمثل يمثل «الإسلام المعتدل» في مواجهة «الإسلام السلفي» الذي تعاظم خلال السنوات العشر الأخيرة، أي خلال وجود الشيخ ترنافا على رأس «الجماعة الإسلامية في كوسوفو» كما تذهب إلى ذلك الصحافة المعارضة له. وفي المقابل يحظى الشيخ ترنافا بدعم قوي من التحالف الحكومي الحالي (الحزب الديموقراطي الكوسوفي وتحالف كوسوفو الجديدة الذي يرأسه رجل الأعمال بهجت باتسولي) ودعم خارجي (تركي الخ)، ولذلك فأن تعديل الدستور مسألة محسومة لمصلحته. ولكن ما يؤسف له أن الخلاف بين الطرفين أصبح مناسبة في الصحافة الكوسوفية والخارجية لإطلاق الفضائح الشخصية والأكاديمية لبعض الشخصيات في «الجماعة الإسلامية في كوسوفو»، وهو ما يعطي صورة قاتمة عن من يمثلون الإسلام والمسلمين. والسيناريو الأسوأ أن يحل في كوسوفو ما حلّ في صربيا، أي أن ينقسم تمثيل المسلمين بين عدة مؤسسات لأنه لا يوجد أصلاً في كوسوفو قانون ينظم وجود الجماعات الدينية.