من خلال تصميم رجلين آليين يلعبان بالكرة، تمكّن خبراء في الذكاء الاصطناعي من تحقيق الإنجاز المذهل: مشاهدة ولادة لغة من دون مرجع، إنها تجربة لا سابق لها، لكنها ربما ساعدت في كشف ظروف نشأة اللغات البشرية في مهودها الأولى. والمعروف ان العودة إلى أصل اللغات واكتشاف ما إذا كانت الكلمات المتبادلة بين الناس، في بلاد مختلفة، تنبع من لغة أصيلة مشتركة، تُشكل هدفاً للكثير من الجهود العلمية المتنوعة. وثمة من يرى ان الطريقة المُناسبة للتفكير في مسألة ظهور اللغة عند البشر هي مراقبة أفراد يبتكرون مفردات وتعابير تظهر تلقائياً ومن دون مرجعية مسبقة. وبقول آخر، يسعى البعض لمشاهدة لغة ما اثناء ولادتها. وقد تمكّن بحّاثة في الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence من انجاز ذلك الأمر، وبما يُشبه المصادفة، في مختبر في باريس عبر مراقبة رجلين آليين روبوتين يلعبان بالكرة! وتعطي هذه التجربة معلومتين مهمتين"إذ تبيّن أن الوقت اللازم لبروز لغة قصير للغاية، وكذلك الصدفة تلعب دوراً أساسياً في هذه الظاهرة. بدأت القصة عام 1999 تحت إشراف لوك ستيلز من"مختبر سوني لعلوم الكومبيوتر"Sony Computer Science Laboratory في باريس. خاض تلك التجربة رجلان آليان من نوع"آيبو"Aibo، يسيران على أربع قوائم، كانا"يتدربان"يومياً على اللعب بكرة برتقالية اللون. لاحظ العلماء أن الرجل الآلي يتوقّف فجأة عن الحركة بعد أن يكتشف كلّ منهما، بفضل الكاميرا الصغيرة المجهّز بها، الوضعيّة التي تمكّنه من مشاهدة الكرة البرتقالية وشريكه في الوقت نفسه! وعندما يتوقّف الروبوتان عن الحركة يطلقان إشارة صوتية. وبعد ذلك يركل أحد أعضاء الاختبار الكرة التي تبدأ بالتدحرج على الأرض، فيتبع الرجلان الآليان مسار الكرة بدقّة بعيونهما الإلكترونية. عندما تتوقّف الكرة يطلق أحد الروبوتين عبارة لا معنى لها على الإطلاق، عبر المُرسل الصوتي المدمج فيه. وبعد بضع ثوانٍ يهزّ زميله رأسه من الأعلى إلى الأسفل كأنه علامة لقول"أجل". عندئذ يركل المختبِرون الكرة مُجدداً، فيتبادل الرجلان الآليان الأدوار. ماذا تعني رقصة الباليه الغريبة هذه؟ إنها بكلّ بساطة تشير الى أنّ هذين الرجلين الآليين هما في خضمّ صنع لغة جديدة. ويفسّر ستيلز هذه الظاهرة بالقول:"بفضل هذه الحوادث المتكررة كثيراً، يصنع هذان الروبوتان بنفسيهما شيئاً فشيئاً لغة مشتركة تسمح لهما بوصف حركات الكرة. فكلما ركل رجال المختبِر الكرة ينطق أحد الرجلين الآليين بعبارة تعني مثلاً:"لقد تحرّكت الكرة عن يساري"أو"لم تتحرّك الكرة كثيراً". فيشير الروبوت الآخر عندئذ، من خلال إشارة مناسبة بالرأس، إن كان فهم الجملة المنطوقة أولاً. ثمّ يحفظ كلّ واحد منهما الجواب وتُركل الكرة من جديد... وتكون النتيجة مذهلة. فعلى رغم أن التجربة لم تنتهِ، تمكّن الرجلان الآليان حتى الآن، ومن خلال 5 آلاف ركلة كرة، من ابتكار عبارات مثل:"بوغيزا تيتيلو"أو"لادولي غوغيتا"أو حتى"ريمييو فوكسونا فوتوزو فوبووي"التي يمكن ترجمتها على التوالي:"توقّفت الكرة على يساري"أو"تجري الكرة أمامك"أو"تجري الكرة من يميني إلى يسارك." العشوائية تصنع اللغة إنّ ظهور اللغة لدى الرجلين الآليين أمر مذهل فعلاً، والأهمّ من ذلك أنه في بداية التجربة التي بدأت عام 2004، لم يكن في ذاكرة الرجلين الآليين أي كلمة أو قواعد، ما يعني أن لغتهما نشأت من لا شيء تقريباً! كيف يمكن تفسير ذلك؟ لقد وضع الباحثون مسبقاً في القرص الصلب لكل رجل آلي ثلاثة أنواع من القُدرات. تتضمن الأولى قدرة الروبوت على"تكسير"الحقيقة البصرية التي يراها عبر إعادة تصنيف الاشياء التي يتعامل معها"ثمّ يُعطي كلمات لكلّ فئة من هذه الفئات. فمثلاً يخلق الرجلين الآليين فئات لوصف وضعيات الكرة أو المسافة التي تعبرها عند كل ركلة. وتمكن القدرة الثانية من صنع كلمات وقواعد بشكل عشوائي، عندما يتواجد الروبوت أمام وضع جديد لا يملك وسيلة لغوية لوصفه. وتعطي القدرة الثالثة الروبوت امكان مناغمة آلاته مع آلات الرجل الآلي الآخر، وفي شكل دائم. لكي نفهم كيف استطاعت هذه القدرات الثلاث صنع لغة لنأخذ مثلاً خيالياً نرى فيه الرجلين الآليين يتمكّنان من إدخال كلمة في معجمهما تعني:"لم تتحرّك الكرة كثيراً". في الركلة الأوّلى من الاختبار، تتحرّك الكرة قليلاً نحو اليسار. في رأس الرجل الآلي الذي يفترض به الكلام،"يُكسّر"هذا الحدث إلى الكثير من الفئات، مثل تحديد الموقع أو السرعة أو المسافة التي عبرتها الكرة. لنتصوّر الآن أنّ الرجل الآلي يقرّر وصف الحدث بواسطة هذه الفئة الأخيرة، أي انه استعمل القدرة الأولى، لكنه لا يملك كلمة مناسبة لتسمية هذا الحدث. عندئذ، وباستعمال القدرة الثانية، يصطنع الرجل الآلي كلمة"بوزوكو"التي يمكن ترجمتها بأن الكرة لم تتحرّك كثيراً. كيف سيكون ردّ فعل الروبوت الثاني؟ إنه لا يملك أيضاً كلمة متوافرة لهذا الحدث"ومن المنطقي أن يحرّك رأسه من اليمين إلى اليسار كعلامة على عدم الفهم. ولنتصوّر الآن أن من خلال ركلة أخرى للكرة، يتوجب على الرجل الآلي الثاني أن يصف بدوره وضعيّة مماثلة للحدث السابق. إن الركلة الأولى بقيت في ذاكرته، لذا فلسوف يستعمل الكلمة التي ابتكرها الروبوت الأول بوزوكو لأنه يستعين بالقدرة الثالثة التي يتمتّع بها، أي مناغمة أدواته اللغوية الخاصة مع أدوات الرجل الآلي الآخر. وتجاه هذه الكلمة سيهزّ الرجل الآلي الأول برأسه ليقول"أجل"، فتصبح"بوزوكو"بالتالي جزءاً من المعجم المشترك للروبوتين! إذاً، أدى وجود هذه القدرات الثلاث وحدها إلى ظهور لغة مشتركة. وفي هذا السياق، تسهل ملاحظة الدور الذي لعبته العشوائية في تلك العملية. إن الروبوتين لهما ملء الحرية في ابتكار الكلمات التي تخطر في بالهما لوصف وضعيّة جديدة. وإن تكرّرت التجربة سيكوّنان كلمات أخرى ما يؤدّي إلى بروز لغة مختلفة تماماً. إن كانت الصدفة والسرعة تميّزان بروز اللغة لدى هذين الرجلين الآليين، فهل يمكن أن نُسقط هذه المعلومات على البشر؟ يبدو الباحثون في مختبر"سوني"في باريس مقتنعين بذلك. إذ يشرح ستيلز الأمر بالقول:"القدرات الإدراكية الثلاث التي منحناها لرجلينا الآليين موجودة أيضاً لدى الإنسان. ففي الواقع، نحن نحظى بذاكرة تسمّى ذاكرة مشتركة، تمكّننا من تقسيم الواقع إلى فئات مختلفة وإلى إعطائه عوامل مرمّزة شفوية أو حركية مثلاً. كما نتمتّع بالقدرة على ابتكار عوامل مرمّزة حين نرغب في وصف حقائق مستجدة. كما نملك أيضاً القدرة على مناغمة تصرّفاتنا الخاصة مع تصرفات الآخرين". ويظن الباحثون انّ الإنسان الأول الناطق كان يتمتّع بهذه القدرات أيضاً."إن الظروف الأولية التي نما فيها مشابهة لتلك التي يوجد فيها الرجلان الآليان في بداية الاختبار". لدعم هذه الفكرة التي يستحيل في الواقع التحقّق منها، يقدّر علماء الإنسان القديم أن قدراتنا الإدراكية الحالية ظهرت منذ زمن طويل. وذلك أمر تحاول الاجابة عنه الابحاث على تطوّر الأدوات القديمة أوعلى حجم الدماغ في الهياكل العظمية المنبوشة وغيرها. بيد أنّ تجربة ستيلز المذهلة لا يمكن التحقّق منها سوى في قلب مجموعة بشرية. ويمكن التفكير في مثل هذه الفرصة فعلياً في ضوء الأعمال التي قامت بها عالمة اللغة الأميركية جودي كيغل التي وصفت في الثمانينات من القرن الماضي لغة الإشارات النيكاراغوية. لقد ظهرت هذه اللغة بعد تأسيس أوّل مراكز للأطفال الصمّ عام 1979. ففي هذه المراكز، تجمّع وللمرّة الأولى أطفال كانوا يعيشون منفصلين عن بعضهم بعض، ولم يتعلم أحد منهم لغة معيّنة بسبب إعاقتهم. ولكن تجميعهم أدّى إلى بروز ظاهرة غير متوقعة. ففي حين أن كل المحاولات الرسمية لتعليمهم أساليب تواصل مختلفة باءت بالفشل، ابتكر هؤلاء الأطفال بأنفسهم لغة إشارات جديدة بالكامل ومختلفة في كل النواحي عن اللغات التي يُقال عنها"شفوهية"، وهي مختلفة أيضاً عن أي"لغة إشارة"أخرى. ومكّنتهم هذه اللغة من التواصل في ما بينهم خلال بضعة أشهر. وبالتالي في فترة قصيرة للغاية، استطاع أفراد يرغبون في التحدّث في ما بينهم أن يستخدموا قدراتهم الإدراكية لتكوين لغة لم تكن موجودة من قبل. وتدعم هذا الأمر فرضية ستيلز، كما يزيد من هشاشة الفرضية القائلة بوجود"لغة أم"ّ شكّلت أساساً لكلّ اللغات الأخرى. القسم العلمي - بالتعاون مع مركز الترجمة في "دار الحياة"