فيلمان يتقاطران وراء هذا الفيلم:"بدم بارد"الذي أخرجه ريتشارد بروكسسنة 1967 وپ"لقتل طائر مغرّد"الذي أخرجه روبرت موليغن عام 1962 كلاهما بالأبيض والأسود. الأول مأخوذ عن رواية ترومان كابوتي 1984-1924 بالعنوان ذاته، المأخوذة بدورها عن أحداث حقيقية، والثاني مأخوذ عن رواية وضعتها نيل هاربر لي وتؤديها هنا كاثرين كينير التي كانت تربطها بكابوتي صداقة نظيفة كونه"لا تستهويه النساء". "كابوتي"? الفيلم يروي لنا الظروف التي وضع فيها الكاتب روايته"في دم بارد". في العام 1959 اقتحم رجلان منزلاً معزولاً في بلدة اسمها هولكمب في ولاية كانساس وقتلا كل من فيه بعد تكميمه وربطه بحبل ثم خرجا بغلّة لم تزد على 35 دولاراً. لفتت الجريمة الكاتب فوضع 300 كلمة عنها في مقالة سلّمها لمجلة"ذي نيويوركر"ثم قرر التوسّع في تحقيقه ووضع كتاباً عنها بعدما ألقت الشرطة القبض على الفاعلين بيري سميث وريتشارد دِك هيكوك. كابوتي - المؤلف قال عن نفسه إنه من وضع الرواية غير الخيالية وذلك يرد أيضاً في الفيلم في مشهد مبكّر. قد يبدو في الفيلم مجرّد ادعاء، لكن عدداً من المؤرخين يوافقون عليه، مشيرين الى أن عدداً من الروايات التي وضعها كابوتي كانت أشبه بكتابة التحقيقات الصحافية إنما بأسلوب روائي. وذلك واضح في روايته"في دم بارد"وتبعاً لذلك اختار المخرج ريتشارد بروكس أسلوب سرد سينمائي مواز لأسلوب كتابة كابوتي في فيلمه"في دم بارد". لكن الفيلم الذي نراه ليس بارداً وفي الوقت ذاته ليس ساخناً أيضاً. إنه فيلم هادئ جداً فيه تمثيل لامع يشبه في نفاذه نصلاً حاداً يعكس وميضاً مخيفاً هو تمثيل فيليب سايمور هوفمان. هدوء وسكينة مستوحيان من أحداث لا تعرف الإثارة، لكنها في الوقت عينه مثيرة بحد ذاتها بسبب نجاح معالجة تمعن في البحث عن وجه كابوتي الحقيقي والظروف التي عايشها حين قرر تأليف الكتاب والتي من أجلها تعرّف إلى القاتلين في زيارات متكررة خصوصاً لسميث كليفتون كولينز الذي أسرّ إليه بخفايا ومشاعر وأفكار وظّفها كابوتي لكتابه. سكون بارد وساخن، هادئ ومثير... ليس في الأمر تناقض بسبب معالجة المخرج بَنِت ميلر الجيدة والأداء الأكثر من جيّد من هوفمان. لكن بهذا القدر نفسه من التوازن المثير للإعجاب، هناك حقيقة أن الفيلم في الوقت الذي لا يتعاطى وحياة كابوتي الجنسية المثلية نراه يتمشّى مع صديقه الكاتب جاك دانفي، كما يقوم به بروس غرينوولد، كما نراه يرمق رئيس الشرطة ألفن، كما يؤديه كريس كوبر، بنظرة إعجاب لا يخفي رأيه بما فعله الكاتب لأجل إطلاق عمله بنجاح: لقد هيمن على سميث ودفعه للكشف عن معلوماته ومشاعره ولم يخبره حقيقة نيّته في استغلالها كمادة كتاب ثم كذب عليه حين أخبره أن الكتاب لم يُنجز في الوقت الذي كانت المطابع بدأت بطبعه. على أن استغلال كابوتي للسجين على هذا النحو تسبب في وقوع كابوتي في حال اضطراب نفسية يصوّرها الفيلم مختاراً، مرة أخرى، شكلاً ساكناً جداً لما يتفاعل في صدره. ليس هناك من حوار صارخ بينه وبين صديقته الروائية وكاتبة"مقتل طائر مغرد"نيل هاربر لي ولا أفعال ضاجة ومشاهد للصدمة. فقط مشاهد للكاتب وهو يعتزل بنفسه رافضاً الرد على الهاتف او مغادرة فراشه. تمثيل هوفمان في"كابوتي"أحد عناصر قوة الفيلم. هوفمان يجسّد الشخصية متكاملة من صوت وصورة ومشاعر وملامح عامّة. والإجادة ليست في ابتداع نتوءات في الحركة والسلوك. هذا سيكون سهلاً جداً بل ربما مريحاً لمشاهدين معتادين على أداءات تتّكل على الفرص المناسبة في مثل هذه الحال. يعمد هوفمان الى التجسيد بدءاً بالصوت ومروراً بطريقة الكلام واللهجة الجنوبية ولد كابوتي في نيو أورليانز، وانتهاء بالقدرة على التناسب الكلي للشخصية المؤداة بحيث لا تخون الممثل اختياراته من التصرّفات والمسالك، بل تلتقي تحت بشرة قابلة للتصديق. حتى وإن لم يكن صوت كابوتي شبيهاً بصوت هوفمان، حتى وإن لم يكن شكله بمجمله شبيهاً بشكل هوفمان هوفمان أطول قامة، فإن الممثل وصل الى الدرجة التى يمكن معها التغاضي كلياً عن الفوارق. تصبح عديمة الأهمية. وهو لا يتحاشى أن يظهر منفعياً، أنانياً، غير مريح وباحث عن الأضواء بأي وسيلة. في عمق الفيلم والأداء، هناك تلك الشخصية التي تكذب لمصلحتها وتهيمن وتستغل الى أن تُصاب بردّ فعل مرحلي على رغم وطأتها. على ذلك، يمنح الممثل شخصية كابوتي ما يكفي للتعاطف معها وعدم الإعجاب بها في الوقت ذاته. هذا من أصعب الأدوار التي مرّت أمامنا هذا العام. ليس مجرد سيرة هوفمان هو الأكثر لمعاناً هنا، لكنه ليس الممثل الجيد الوحيد. تفاجئنا كينر مرة أخرى بمقوّماتها لاعبة دور الصديقة التي ساعدت كابوتي وساندته في أكثر مراحل تلك الحقبة حدّة. إنها تعكس شخصية إمرأة متواضعة لكن ملمة بالأمور في الوقت ذاته. تدرك ما لا تبوح به وتلحظ ما لا يحتاج منها الى تعليق. إخراجياً، هذا فيلم غاية واضحة. ليس مجرد سيرة من نوع حدث في التاريخ المحدد وعلى هذا النحو. بل هو سيرة من النوع الذي تقرأ في التداعيات والخلفيات وتختار من كل ظروف الفترة وأحداثها ما يكشف عن الكاتب في تلك الفترة تحديداً وما يعرّضه لضوء النقد ضمنها وبسببها فقط. ما ينجزه ميلر هو فيلم معالج بذكاء ملحوظ وبتفاصيل خاصة في كل لقطة. إنه على الأرجح أفضل فيلم سيرة عن كاتب أنجز في تاريخ هوليوود. يقف جنباً الى جنب مع بعض الأعمال الروسية في هذا المجال، كتلك التي صوّرت عن حياة تشيخوف او غوركي او تولستوي مع فوارق فنية تجعل"كابوتي"في الوقت ذاته أقل ثقلاً وپ"أدبية"من تلك الأفلام المعنية.