كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" ابتداء من اليوم فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في حرب إنشاء إسرائيل التي سميت "حرب الاستقلال" فيما سماها العرب بحق "نكبة" فلسطين. ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة هنا وهناك عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل تلك الجيوش عملياتها ضد ما سمي آنذاك"العصابات الصهيونية". وما جرى عام 1948 في فلسطين معقد وبسيط في آن، ويمكن تجاوز التعقيد الذي نشرته أجهزة إعلام وإشاعات، الى الحقيقة القائلة إن ما حدث بسيط ومرعب، إذ تم تطهير مساحات كبرى من فلسطين من سكانها الأصليين، ما يُعتبر جريمة ضد الإنسانية أرادت اسرائيل إنكارها ودفع العالم الى نسيانها. والكتاب هو محاولة لاسترداد وقائع اسرائيلية مشينة، من النسيان. تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام، وله مؤلفات أخرى عن تاريخ فلسطين الحديث والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. "نحن لم نبك/ ساعة الوداع!/ فلدينا/ لم يكن وقت/ ولا دمع/ ولم يكن وداع! نحن لم ندرك/ لحظة الوداع/ أنه الوداع/ فأنّى لنا البكاء؟! طه محمد علي 1988 لاجئ من قرية صفورية "أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي. ديفيد بن غوريون، مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، في حزيران/يونيو 1938 "البيت الأحمر"كان من أفضل نماذج البناء في تل أبيب في أعوامها الأولى. كان مصدر فخر للبنائين والحرفيين الذين عملوا في بنائه في العشرينيات من القرن الماضي، وقد جرى تصميمه ليكون المقر الرئيس لمجلس العمال المحليين. وظل هكذا إلى أن أصبح في أواخر سنة 1947 مقر قيادة الهاغاناه، الميليشيا الصهيونية الرئيسة في فلسطين. كان على مسافة قريبة من البحر في شارع اليركون، في الجزء الشمالي من تل أبيب، وشكل إضافة بديعة إلى المدينة"العبرية"الأولى، المنشأة على ساحل البحر الأبيض المتوسط""المدينة البيضاء"، كما كانت الطبقة المثقفة والنخبة المتعلمة من سكانها تسميانها تحبباً. ذلك بأن بياض مبانيها النقي في تلك الأيام، خلافاً لحالها اليوم، كان يكسب المدينة بأسرها ذاك الألق الساحر الذي اتسمت به مدن موانئ البحر الأبيض المتوسط في تلك الحقبة، وفي بعض الأمكنة الجغرافية. كانت متعة للنظر، وقد امتزجت بانسجام في مبانيها الأساليب المعمارية الفلسطينية المحلية بأساليب ال bauhaus طراز بناء ألماني - المترجم في خليط أُطلقت عليه تسمية Levantine ، بمعنى يخلو تقريباً من الإيحاءات السلبية لهذا المصطلح. لقد كان"البيت الأحمر"على شكل مستطيل بسيط، ازدانت واجهته الأمامية بأقواس شكلت إطاراً للمدخل، وسندت شرفات الطبقتين العلويين. أمّا صفة"الأحمر"فقد كانت مستوحاة إمّا من ارتباطه بالحركة العمالية، وإمّا من الصبغة الحمراء الوردية التي كانت تلونه وقت غروب الشمس. والتفسير الأول أكثر ملاءمة. وقد تواصل اقتران المبنى بالنسخة الصهيونية من الاشتراكية عندما أصبح، في السبعينات من القرن الماضي، المقر الرئيس للحركة الكيبوتسية. إن بيوتاً مثله، هي بقايا تاريخية مهمة من مخلفات فترة الانتداب، جعلت اليونسكو في سنة 2003 تصنف تل أبيب موقعاً تراثياً عالمياً. هذا المبنى لم يعد موجوداً الآن، إذ راح ضحية التطوير، الذي هدم هذا الأثر المعماري ليحول المكان إلى موقف للسيارات مجاور لفندق شيراتون الجديد. كما لم يبق في الشارع الذي كان قائماً فيه أي أثر لپ"المدينة البيضاء"التي تحولت بالتدريج إلى الحاضرة المترامية الأطراف، الملوثة الهواء، النابضة بالحياة"أي تل أبيب الحديثة. في هذا المبنى، عصر يوم أربعاء بارد، في 10 آذار مارس 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً. وفي مساء اليوم نفسه، أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد. وأُرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لإخلاء الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق"محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية"حرق منازل وأملاك وبضائع"طرد"هدم بيوت ومنشآت"وأخيراً، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم. وتم تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحدَّدة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة. وكانت هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي الخطة دالِتْ [الحرف"د"بالعبرية]، هي النسخة الرابعة والنهائية عن خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهيونيون يعدونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين. وقد كانت الخطط الثلاث السابقة تعكس في شكل مبهم تفكير القيادة الصهيونية بالنسبة إلى كيفية التعامل مع تلك الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين القاطنة في الأرض التي كانت الحركة القومية اليهودية تشتهيها لنفسها. أمّا هذه النسخة الرابعة والأخيرة، فقد بينت ذلك بوضوح، وعلى نحو غير قابل للتأويل: الفلسطينيون يجب أن يَرْحلوا. وبحسب تعبير سمحا فلابان Simcha Flapan، من أوائل المؤرخين الذين أشاروا إلى أهمية هذه الخطة ومغزاها، فإن"الحملة العسكرية ضد العرب، بما في ذلك غزو المناطق الريفية وتدميرها، رُسمت معالمها في خطة دالِتْ التي أعدتها الهاغاناه"وكان هدف الخطة، في الواقع، تدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء. هذه الخطة، كما سنحاول أن نوضح في الكتاب، كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصراً، كما أنها كانت استجابة للتطورات على الأرض في إثر قرار الحكومة البريطانية بإنهاء الانتداب. وأتت الاشتباكات المسلحة مع الميليشيات الفلسطينية المحلية لتوفر السياق والذريعة المثالية من أجل تجسيد الرؤيا الأيديولوجية التي تطلعت إلى فلسطين نقية عرقياً. وكانت السياسة الصهيونية في البداية قائمة على ردات فعل انتقامية على الهجمات الفلسطينية في شباط فبراير 1948، لكنها ما لبثت أن تحولت في آذار مارس 1948 إلى مبادرة لتطهير عرقي للبلد بأكمله. بعد أن اتخذ القرار، استغرق تنفيذ المهمة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800.000 نسمة، قد اقتُلعوا من أماكن عيشهم، و531 قرية دُمرت، و11 حياً مدينياً أُخلي من سكانه. إن هذه الخطة التي تقرر تطبيقها في 10 آذار 1948، والأهم من ذلك تنفيذها بطريقة منهجية في الأشهر التالية، تشكل مثالاً واضحاً جداً لعملية تطهير عرقي، وتعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية. أصبح من المستحيل تقريباً، بعد الهولوكوست، إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية. والآن، في عالمنا المعاصر، الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات، وخصوصاً مع تكاثر وسائط الإعلام الإلكترونية وانتشارها، لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر، أو إخفاؤها عن أعين الرأي العام. ومع ذلك، فإن هناك جريمة كهذه جرى محوها كلياً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948. إن هذا الحدث المصيري، الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً. التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية، والذين يقدمون عليه اليوم يُعتبرون مجرمين يجب محاكمتهم أمام هيئات قضائية خاصة. وقد يكون من الصعب التقرير بشأن المرجعية أو كيفية التعامل، في النطاق القانوني، مع الذين خططوا والذين نفذوا التطهير العرقي فلسطين في سنة 1948، لكن من الممكن استحضار جرائمهم والتوصل إلى رواية تاريخية أكثر دقة من أية رواية وضعت حتى الآن، وإلى موقف أخلاقي أكثر نزاهة. نعرف أسماء الأشخاص الذين جلسوا في تلك الغرفة في الطبقة العلوية في"البيت الأحمر"، تحت ملصقات ماركسية الإيحاء كتبت عليها شعارات مثل"إخوة في السلاح"وپ"القبضة الفولاذية"، ورسوم تمثل اليهود"الجدد"- أصحاء، مفتولي العضلات، وقد لوّحتهم الشمس- يصوّبون بنادقهم من وراء سواتر واقية في"الحرب الشجاعة"ضد"الغزاة العرب المعتدين". كما أننا نعرف أسماء الضباط الكبار الذين نفذوا الأوامر على الأرض، وجميعهم شخصيات معروفة في هيكل عظماء البطولة الإسرائيلية. وكثيرون منهم كانوا إلى فترة غير بعيدة أحياء يرزقون، ويؤدون أدواراً رئيسة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين"أمّا الآن، فإن قلة منهم لا تزال على قيد الحياة. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، وكل من رفض أن يبتلع الرواية الصهيونية، فقد كان واضحاً لديهم منذ زمن بعيد، سابق لتأليف هذا الكتاب، ان هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم، وأنهم نجحوا في التهرب من العدالة، وان من الأرجح ألاّ تجري محاكمتهم على ما اقترفت أيديهم. وبالإضافة إلى هول الاقتلاع، فإن أشد ما يبعث الإحباط في نفوس الفلسطينيين هو أن الجريمة التي ارتكبها أولئك المسؤولون يستمر إنكارها تماماً، كما يستمر تجاهل معاناة الفلسطينيين منذ سنة 1948. منذ ثلاثين عاماً تقريباً، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948 كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلفيقها عن"انتقال طوعي"جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم موقتاً من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة. غير أن المؤرخين الفلسطينيين، وفي طليعتهم وليد الخالدي، استطاعوا في السبعينات من القرن الماضي، من خلال جمع مذكرات ووثائق أصلية تتعلق بما جرى لشعبهم، أن يستعيدوا جزءاً كبيراً من الصورة التي حاولت إسرائيل محوها. لكن سرعان ما عتّم على الحقائق المستعادة مؤلفات مثل كتاب"نشوء 1948"Genesis 1948 لمؤلفه دان كورتسمان Dan Kurtzman والذي نُشر في سنة 1970، وأعيد نشره في سنة 1992 هذه المرة مع مقدمة بقلم أحد منفذي التطهير العرقي في فلسطين، يتسحاق رابين، الذي كان حين كتابة المقدمة رئيساً للحكومة. إنما لم يخل الأمر من قلة ساندت المجهود الفلسطيني، مثل مايكل بالومبو Michael Palumbo، الذي أيد كتابه: النكبة الفلسطينية The Palestinian Catastrophe، الذي نشر في سنة 1987، صحة الرواية الفلسطينية لأحداث 1948، استناداً إلى وثائق الأممالمتحدة ومقابلات مع لاجئين ومعنيين فلسطينيين، كانت ذكرياتهم عما جرى لهم خلال النكبة ما زالت حية في وجدانهم. كان في الإمكان تحقيق اختراق سياسي في المعركة بشأن الذاكرة في فلسطين عندما ظهر في ثمانينات القرن الماضي ما يسمى في إسرائيل"التاريخ الجديد". وكانت تلك محاولة قامت بها مجموعة صغيرة من المؤرخين الإسرائيليين لمراجعة الرواية الصهيونية عن حرب 1948. وكنت واحداً منهم. لكننا، أعني المؤرخين الجدد، لم نساهم مساهمة فعالة في النضال ضد إنكار النكبة لأننا تفادينا الخوض في مسألة التطهير العرقي وركزنا على التفصيلات، كما يفعل عادة المؤرخون الدبلوماسيون. مع ذلك، نجح المؤرخون الإسرائيليون التصحيحيون، باستخدام الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية أساساً، في إظهار سخف وكذب الادعاء الإسرائيلي أن الفلسطينيين غادروا البلد"بمحض إرادتهم". واستطاع هؤلاء المؤرخون أن يوثقوا حالات كثيرة لطرد جماعي من القرى والمدن، وأن يبينوا أن القوات المسلحة اليهودية ارتكبت عدداً كبيراً من الأعمال الوحشية، بما في ذلك مجازر شنيعة. ومن الأشخاص المعروفين جيداً، ممن كتبوا عن الموضوع، المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس Benny Morris ولأنه اعتمد حصراً على وثائق في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، فإنه خلص إلى رسم صورة جزئية فقط لما جرى في الواقع، ومع ذلك كانت كافية بالنسبة إلى عدد من قرائه الإسرائيليين كي يدركوا أن"الهروب الطوعي"للفلسطينيين مجرد خرافة، وأن الصورة التي رسمها الإسرائيليون لأنفسهم، بأنهم خاضوا حرباً"أخلاقية"في سنة 1948 ضد عالم عربي"بدائي"عدائي، مجافية للحقيقة إلى حد كبير، بل من المحتمل أن تكون فقدت صدقيتها. كانت الصورة التي رسمها موريس جزئية لأنه صدّق من دون تمحيص ما ورد في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي وجدها في الأرشيفات، بل اعتبره الحقيقة المطلقة. وقاده ذلك إلى تجاهل أعمال وحشية ارتكبها اليهود، مثل تلويث القناة التي تصل المياه عبرها إلى عكا بجراثيم التيفوئيد، وحالات الاغتصاب المتعددة، وعشرات المذابح. كما أنه بقي مصراً، على رغم عدم صحة ذلك، على أنه لم يحدث قبل 15 أيار مايو 1948 إخلاء للسكان بالقوة، بينما تظهر المصادر الفلسطينية بوضوح أن القوات الإسرائيلية كانت نجحت قبل أشهر من دخول القوات العربية فلسطين في طرد ما يقارب ربع مليون فلسطيني بالقوة، في وقت كان البريطانيون ما زالوا مسؤولين عن حفظ الأمن والنظام في البلد، وتحديداً قبل 15 أيار 1948. ولو كان موريس وغيره استخدموا مصادر عربية، أو التفتوا إلى التاريخ الشفوي، لكانوا استطاعوا - ربما - أن ينفذوا على نحو أفضل إلى التخطيط المنهجي وراء طرد الفلسطينيين في سنة 1948، وأن يقدموا وصفاً أكثر صدقاً لفداحة الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون. كان هناك حين ظهور المؤرخين الجدد، ولا يزال، حاجة تاريخية وسياسية إلى المضي إلى ما هو أبعد من مجرد السرد المقصور على الوصف الذي نجده في مؤلفات موريس وغيره، لا من أجل استكمال الصورة أو بالأحرى جلاء نصفها الآخر فحسب، بل أيضاً- وهذا هو الأهم - لأننا نفتقر إلى طريقة أُخرى لفهم جذور الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الراهن. وفوق ذلك كله، طبعاً، هناك الواجب الأخلاقي الذي يحتم الاستمرار في النضال ضد إنكار وقوع الجريمة. إن السعي للمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بدأه فعلاً آخرون. وأهم عمل صدر في هذا المجال هو كتاب وليد الخالدي الفذّ All That Remains تُرجم إلى العربية تحت عنوان:"كي لا ننسى"- المترجم، ولا عجب في أن يكون هذا العمل هو الأهم إذا أخذنا في الاعتبار مساهمات الخالدي القيّمة في النضال ضد الإنكار الصهيوني. إنه توثيق علمي لتاريخ القرى الفلسطينية - المترجم المدمَّرة وما جرى لها في سنة 1948 - المترجم، وسيبقى دليلاً لكل من يرغب في معرفة فداحة نكبة 1948. قد يظن المرء أن ما تم الكشف عنه من حقائق تاريخية كاف لإثارة أسئلة مقلقة. لكن الحقيقة هي أن رواية"التاريخ الجديد"والمساهمات التاريخية الفلسطينية الحديثة فشلت في النفاذ إلى مملكة الضمير الأخلاقي، وفي دفع أصحاب الضمير الحي إلى القيام بما يتوجب عليهم فعله. وما أسعى إليه في هذا الكتاب هو تفحص آلية التطهير العرقي الذي حدث في سنة 1948، ومنظومة المعرفة التي سمحت للعالم بأن ينسى الجريمة التي اقترفتها الحركة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في سنة 1948، ومكنت مرتكبيها من إنكارها. بكلمات أُخرى: أريد أن أدافع عن نموذج التطهير العرق Paradigm of ethnic cleansing وأن أستعمله بدلاً من نموذج الحرب paradigm of war كأساس وموجه للبحث العلمي والنقاش العام في شأن أحداث 1948. ولا شك لديّ في أن غياب نموذج التطهير العرقي كأداة للبحث - المترجم يفسر جزئياً لماذا أمكن أن يستمر إنكار النكبة طوال هذه الفترة المديدة من الزمن. فعندما أنشأت الحركة الصهيونية دولتها القومية لم تخض حرباً نجم عنها"بصورة مأسوية، لكن لم يكن هناك مفر من ذلك"، طرد"أجزاء"من السكان الفلسطينيين، بل بالعكس: كان الهدف الرئيسي للحركة تطهير فلسطين بأسرها تطهيراً عرقياً شاملاً، باعتبارها البلد الذي أرادت أن تقيم دولتها فيه. وقد أرسلت الدول المجاورة جيشاً صغيراً - بالمقارنة مع قوتها العسكرية الإجمالية - في محاولة فاشلة لمنع التطهير العرقي، لكن ذلك حدث بعد أسابيع من بدء التطهير العرقي، ولم يؤد إلى وقف العمليات التي كانت جارية، والتي استمرت إلى أن أُكملت بنجاح في خريف سنة 1948. هذه المقاربة - اعتماد نموذج التطهير العرقي أساساً مسلَّماً به لرواية أحداث 1948 - قد تبدو للبعض، من أول نظرة، بمثابة اتهام. وهي فعلاً كذلك، من نواح عديدة. إنني شخصياً أتهم السياسيين الذين خططوا، والجنرالات الذين نفذوا الخطة، بارتكاب جريمة تطهير عرقي. ومع ذلك، فإنني عندما أذكر أسماءهم لا أفعل ذلك لأنني أريد رؤيتهم يحاكمون بعد وفاتهم، وإنما كي أستحضر مرتكبي الجرائم والضحايا بصفتهم بشراً، وكي أحول دون إرجاع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إلى عوامل زئبقية مثل"الظروف"،"الجيش"، أو كما يقول موريس"في الحرب تجري الأمور كما في الحرب"La guerre comme la guerre، وما شابه ذلك من تعابير غامضة تسمح للدول ذات السيادة بالإفلات من تبعات ما ترتكبه من جرائم، وللأفراد بالإفلات من قبضة العدالة. إني أتهم، لكني أيضاً جزء من المجتمع المدان في هذا الكتاب. وأشعر بأنني جزء من الحكاية، وأيضاً أتحمل مسؤولية عما جرى. وأنا، مثل كثيرين في المجتمع الذي أنتمي إليه، مقتنع - كما سيتضح في الصفحات الأخيرة من الكتاب - بأن مثل هذه الرحلة الضرورية إلى الماضي هو الوسيلة للتقدم إلى الأمام إذا أردنا أن نصل إلى مستقبل أفضل لنا جميعاً، فلسطينيين وإسرائيليين على السواء. وهذا هو، في الجوهر، القصد من وراء هذا الكتاب. إن أحداً لم يجرب، على حد علمي، هذه المقاربة من قبل. فالروايتان التاريخيتان الرسميتان المتنافستان في بشأن ما حدث في فلسطين سنة 1948، تتجاهلان مفهوم التطهير العرقي. وبينما تدعي الرواية الصهيونية - الإسرائيلية أن السكان المحليين غادروا البلد"طوعاً"، يتحدث الفلسطينيون عن"النكبة"التي حلت بهم"وهذا أيضاً تعبير مراوغ كونه يحيل إلى الكارثة نفسها أكثر مما يحيل إلى من أوقعها، ولماذا فعل ذلك. لقد جرى تبني مصطلح"النكبة"، لأسباب مفهومة، كمحاولة لمواجهة الثقل المعنوي للهولوكست اليهودية. لكن تجاهل من أوقعها قد يكون ساهم، إلى حد ما، في استمرار العالم في إنكار أن ما جرى في فلسطين سنة 1948، وبعد ذلك، كان تطهيراً عرقياً. التعريف العام لمكوّنات التطهير العرقي ينطبق حرفياً، تقريباً، على حالة فلسطين. وقصة ما جرى في سنة 1948، بحد ذاتها، ليست معقدة. لكن هذا لا يجعلها تبدو، تبعاً لذلك، فصلاً مبسَّطاً، أو هامشياً، في تاريخ طرد الفلسطينيين من وطنهم. وفي الحقيقة، فإن اعتماد موشور التطهير العرقي يمكّن المرء بسهولة من اختراق عباءة التعقيدات التي يلفّع الدبلوماسيون الإسرائيليون الحقائق بها بصورة شبه غريزية، والتي يختبئ الأكاديميون الإسرائيليون تحتها، عندما يتصدون للمحاولات الخارجية لانتقاد الصهيونية، أو الدولة اليهودية بسبب سياساتها أو سلوكها. يقولون في بلدي:"الأجانب لا يفهمون، ولا يستطيعون أن يفهموا، هذه الحكاية المعقدة"، وبالتالي لا حاجة حتى إلى شرحها لهم. ويجب ألاّ نسمح لهم بالتدخل في محاولات حل النزاع، إلاّ إذا قبلوا وجهة النظر الإسرائيلية. وقصارى ما يمكن للعالم فعله، حسب ما دأبت الحكومة الإسرائيلية على القول دائماً، هو أن يُسمح"لنا"، نحن الإسرائيليين، بصفتنا ممثلين للطرف"المتحضر"و"العقلاني"في النزاع، بإيجاد حل عادل لپ"أنفسنا"وللطرف الآخر، الفلسطينيين، الذين هم في النهاية صورة مصغرة للعالم العربي"غير المتحضر"وپ"الانفعالي"الذي ينتمون إليه. ومنذ أن أبدت الولاياتالمتحدة استعدادها لتبني هذه المقاربة المشوهة والقبول بالغطرسة الكامنة وراءها، حصلنا على"عملية سلام"لم تؤد، بل لم يكن من الممكن أن تؤدي، إلى أي نتيجة، لأنها تتجاهل تماماً لب المشكلة. لكن قصة 1948 ليست، طبعاً، معقدة على الإطلاق، وبالتالي فإن هذا الكتاب يتوجه إلى القادمين الجدد إلى هذا الحقل، وفي الوقت نفسه إلى أولئك الذين كانوا، لأعوام كثيرة، ولأسباب متعددة، معنيين بالمسألة الفلسطينية، ويفتشون عن طريق للاقتراب من إيجاد حل لها. إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إن استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني"إن ذلك، كما أراه، قرار أخلاقي، وبالذات الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحل ويتجذر في فلسطين وإسرائيل. تعريفات وأصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معرَّفاً جيداً. فمن فكرة تجريدية مرتبطة حصراً، إلى حد كبير، بالأحداث فيما كان يسمى سابقاً يوغوسلافيا، صار الآن يُعرَّف أنه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي. وقد ذكّر أسلوب استخدام بعض الجنرالات والساسة الصرب لتعبير"التطهير العرقي"العلماء المختصين بأنهم سمعوا هذا التعبير من قبل، إذ استخدمه النازيون وحلفاؤهم في يوغسلافيا، كالميليشيات الكرواتية، في الحرب العالمية الثانية. لكن جذور الطرد الجماعي، طبعاً، ضاربة في القدم. فقد استخدم الغزاة الأجانب التعبير أو مفردات مرادفة له، وطبقوا مضمونه بمنهجية ضد السكان الأصليين، منذ زمن التوراة حتى زمن أوج الاستعمار. تعرّف موسوعة"هاتشينسون"Hutchinson"التطهير العرقي"بأنه طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل، بما في ذلك وسائل غير عنيفة، كما حدث بالنسبة إلى المسلمين في كرواتيا، الذين طردوا بعد اتفاقية ديتون في تشرين الثاني نوفمبر 1995. ويحظى هذا التعريف أيضاً بقبول وزارة الخارجية الأميركية، ويضيف خبراؤها أن جزءاً من جوهر التطهير العرقي هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة. والطريقة الأكثر استخداماً هي إخلاء الإقليم من السكان في سياق"أجواء تضفي شرعية على أعمال المعاقبة والانتقام". وتكون النتيجة النهائية لمثل هذا العمل خلق مشكلة لاجئين. وقد تفحصت وزارة الخارجية الأميركية بصورة خاصة ما حدث في أيار مايو 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية. فقد تم إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة، وهذا ما لم يكن ممكناً إنجازه إلاّ من خلال تخطيط مسبق أعقبه تنفيذ منهجي. وقد حدثت أيضاً مجازر متفرقة من أجل تسريع العملية. وما حدث في بيك في سنة 1999 حدث بالطريقة نفسها تقريباً في مئات من القرى الفلسطينية في سنة 1948.