كنتُ عائداً من مؤتمر بعُمان عن "فقه النوازل وتجديد الفتوى"، عندما قرأتُ في صحيفة "الحياة" خبراً عن اجتماع "هيئة العلماء المسلمين" العراقية بعمّان لمناقشة إشكاليات الفتاوى الدينية في خضم الصراع الدائر بالعراق بالذات. والواقع أن المؤتمرين أو المؤتمر والاجتماع لا علاقة لأحدهما بالآخر، على رغم وحدة العنوان. فالمؤتمر الذي عقد في مسقط أكاديمي الطابع، وله علاقة وثيقة بالاجتهاد الفقهي، أو تأمُّل الفتوى باعتبارها شكلاً من أشكال الاستجابة لتحديات الواقع ومُشكلاته. بل إن المحاضرة التي ألقيتُها في المؤتمر المسقطي اعتنت بالفتوى باعتبارها الشكل الأول من أشكال التأليف الفقهي. فقد ذهبت الى ان"الجوابات"كما يُسمي الإباضية الفتاوى كانت تدوَّن وتُصنَّف بحسب الموضوعات، وعَبر القرن الثاني الهجري، تحولت تحت تأثير عاملين: تكوُّن طبقة الفقهاء، وظهور الدولة لدى الإباضية، الى كتب فقهية عامة. أما مقررات مؤتمر العلماء العراقيينبعمان فتتضمن استنكاراً لاستيلاء أنصاف المتعلمين والمتشددين على الفتوى لدى أهل السنّة في العراق، كما تتضمن تشكيل هيئة أو لجنة أو مجلس للفتوى، تكون له مرجعية وسط الظروف الملحمية التي تحيط بوضع المسلمين السنّة هناك. ولكي لا يبدو الأمر غريباً، أي أمر الاجتماع ومقرراته، لا بد من تمهيد موجز يضع المسألة في السياقات التي دفعت شيوخ العراق بهذا الاتجاه، والذي ما كان التفكير فيه وارداً قبل سنوات، لولا ظهور"الإحياء الإسلامي"بصيغتيه: السلفية والأصولية. فالفتوى بحسب ما يقول علماء أصول الفقه هي"بيان الحكم الشرعي من جانب الفقيه في مسألة معروضة عليه". ولأن الحكم الشرعي مستنده أو أصله الكتابُ والسنّة والقياس عليهما أو تقصّد"المصلحة"في ما لم يَرِد فيه نص، فإن المفروض ومنذ القديم القديم أن يكون المسؤول عارفاً بالأصول الشرعية، وبعادات المجتمع وأعرافه، وبأحوال العصر. ثم تكوَّنت المذاهب الفقهية بأصولها وقواعدها ومسائلها التفصيلية وافتراضاتها، فصار أمرُ الفتوى أو الاستجابة لتحديات الواقع أسهل لدى الطرفين المفتي والمستفتي. وليس صحيحاً تماماً ما يقال أحياناً من أن"الفتوى"ليست ملزِمة. فالذي يقلِّد المذهب الشافعي مثلاً، إذا سأل فقيهاً شافعياً، وأجابه بحسب قواعد المذهب وما هو الراجح وعليه الفتوى فيه، يكون عليه أن يتقبل الإجابة أو الجواب باعتبار ذلك حكم الله في الإشكال الذي يتعرض له. إنما المقصود من اختيارية الفتوى في الأزمنة الكلاسيكية، أن فقهاء المذاهب وبخاصة الحنابلة ما كانوا يستحبون التقليد، وكانوا يفضلون أن يسعى كل مسلم للنظر في الأدلة الشرعية والقواعد الشرعية حتى وإن لم يكن يريد التخصص والتفرغ - لكي يتمكن من حل مُشكلاته بنفسه. وقد كان مستفتون كثيرون يلجأون لسؤال أكثر من مُفتٍ أو فقيه إما للتأكد أو لكي تكون عندهم فرصة في الاختيار بين الصالح والأصلح أو الأقرب والأسهل. وقد كانت هناك بالفعل مساحات واسعة ومتنوعة للاختلاف ليس بين المذاهب فقط، بل وداخل المدرسة أو المذهب الواحد أيضاً. والذي يقرأ كتب الفتوى المدوَّنة أو حتى كتب الفقه العامة، يجدُ خيارات عدة معروضة أمامه في أكثر المسائل خارج أحكام العبادات، وفي سائر المذاهب. ومع ذلك فقد كان"التقليد"أي الالتزام بالأحكام والخيرات التفصيلية والمحدودة في كل مذهبٍ، سائداً في سائر المذاهب الفقهية، وبخاصة في المذهب الجعفري أو ما عُرف بهذا الاسم بعد القرن الخامس الهجري. ولذلك سبب خاص بالشيعة الإثني عشرية. ففي غيبة الإمام، ما عاد ممكناً اتباع رأي المعصوم، واكتسب الفقهاء الأحياء ولاية أو سلطة في إدارة شؤون الجماعة، بحيث ظهرت تدريجياً مؤسسة قوية مكونة من المجتهدين الكبار، الذين يكون على أفراد الجماعة الشيعية تقليد واحد منهم في سائر شؤونه الدينية وما اتصل بها. أما المذاهب السنية فلا تُجيز تقليد الأحياء، بل تُصر على جواز تقليد الذين انقطع اجتهادهم بالموت. وكما سبق القول فإن الحنابلة والزيدية والإباضية يفضلون أن لا يقلّد أحد أحداً لا حياً ولا ميتاً! كل هذا"التقليد"المتوارَث تلقى ضربتين، الأولى على يد الإصلاحيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، والثانية على أيدي السلفيين الوهابية ثم الأصوليين في زمان الصحوة أو الإحياء الإسلاميين. الإصلاحيون من مدرسة محمد عبده عارضوا سدّ باب الاجتهاد، ودعوا عملياً الى أمرين: فتح المذاهب بعضها على بعض، والإصغاء لدواعي المصلحة ومقاصد الشريعة، بدلاً من الجمود على الطريقة القياسية الضيقة الأفق. أما السلفيون فهاجموا التقليد والمذاهب والمدارس القائمة منذ قرون صراحة، ودعوا لإزالتها، والعودة للأصول الشرعية، كما عاد فقهاء المذاهب القديمة أنفسهم. وأضاف الأصوليون الى علل معارضة"التقليد المذهبي"ظهور مشكلات جديدة لا تحلها المناهج والقواعد المتوارَثة. وقد بدا الإصلاحيون والسلفيون مُتلاقين في معارضة التقليد في مطالع القرن العشرين، ثم افترقوا افتراقاً عنيفاً. فالسلفيون يريدون العودة المباشرة الى النصوص وتجاهل أكثر التاريخ الفقهي، إضافة طبعاً الى انحرافات الحاضر وغرائبه. بينما يريد الإصلاحيون تغليب مشكلات الواقع الحاضر، والإصغاء لدواعي المصلحة. أما الأصوليون فهم يغلّبون دواعي الهوية العقائدية، ويتقبلون من القديم والجديد ما يتلاءم مع الرؤية الشمولية للإسلام. وهكذا فالطرف الذي تضرر كثيراً من وراء الظواهر الجديدة، كان المؤسسة الدينية السنّية التي تضم تقاليد المذاهب الفقهية. فالإصلاحيون اتهموها بالتخلُّف عن مقتضيات العصر، والسلفيون والأصوليون اتهموها بتقديم الموروث التاريخي التقليد على النص، والتبعية للأنظمة الحاكمة، وقد كان من مظاهر ضعف المؤسسة الدينية السنّية ظهور"فقهاء"جدد لدى الحركات الإسلامية المختلفة، ما تربّوا التربية المذهبية التقليدية، بل استندوا الى العقائدية الجديدة في فهم النصوص أو إعادة فهمها، وفي وسائل وآليات تطبيقها من ضمن رؤيتهم الجديدة لعلائق الدين بالدولة، ولقيام الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة. وفي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين تلاقت الفقهية النصوصية لدى السلفيين مع العقائدية الرؤيوية لدى الأصوليين، بحيث أوشك الفريقان المتقاربان الى درجة التوحد أحياناً، أن يوجها ضربة قاضية لفقهاء المذاهب، ولخصومهم من الإصلاحيين. وعندما جرى احتلال العراق، وبدأت مقاومة الأميركيين، ومن ضمن المقاومين سلفيون وأصوليون آتون من خارج العراق وداخله، وبدأت"التكييفات"الفقهية والعقدية للموقف المستجد تتضارب، تشكلت"هيئة علماء المسلمين"السنّة، وحاولت أن تستوعب التناقضات التي بدأت بالظهور من طريق استيعاب ثلاثة أصناف من الشيوخ في صفوفها: فقهاء المذاهب في العراق أحناف وشافعية، والصوفية، والسلفيين. بيد أن الواقع سرعان ما تجاوز محاولات التنظيم والاستيعاب. فقد سيطر لدى مجاهدي"القاعدة في بلاد الرافدين"الفكر السلفي المتشدد الذي لم يقبل مذهبيات"هيئة العلماء"ولا وطنياتها، وتراجعت فاعلية الصوفية القادرية الذين لا يميلون أصلاً للعمل المسلّح. وعندما بدأت أعمال العنف الطائفي وانغمس فيها أهل"القاعدة"، وجدت"هيئة علماء المسلمين"نفسها محاصرة من جهات عدة: من جهة المحتلين الأميركيين، لأنها عارضت المشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال، ودعمت المقاومة في مواقفها، ومن جهة الحزب الإسلامي الاخوان المسلمين الذي شارك في العملية السياسية منذ البداية، ومن جهة"القاعديين"على الخصوص الذين أعلنوا الحرب مرة واحدة على الأميركيين وعلى السنّة الداخلين في العملية السياسية وعلى الشيعة عموماً. وازداد وضع"هيئة علماء المسلمين"حراجة في العام 2005 بعد أن عجزت عن إقامة تعاون وثيق مع اتباع السيستاني، الذي بدا داعماً بقوة للوضع الجديد في العراق، وعاملاً على توحيد الأحزاب الشيعية في قائمة واحدة في الانتخابات التي جرت مرتين. وتبادل الطرفان الاتهامات في شأن ضعف كل منهما في التصدي للعنف الطائفي على الجهة الأخرى، ولاستيلاء الشيعة على مساجد السنّة وأوقافهم في بعض النواحي. ... وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير بعد مقتل الزرقاوي، وإعلان أتباع"القاعدة"عن قيام"دولة العراق الإسلامية"."دولة العراق الإسلامية"قامت طبعاً أو ادّعت ذلك في بعض المناطق السنّية. وفي الوقت نفسه أعلنت الحكومة العراقية الشيخ حارث الضاري شخصاً متهماً وغير مرغوب فيه، مما اضطره لمغادرة العراق. وبدلاً من أن يتقدم التناقض الرئيسي مع الاحتلال وأتباعه على التناقض الفرعي الاختلاف مع تكفيريي"القاعدة" حدث العكس. إذ انصبَّ همُّ تكفيريي"القاعدة"على ضرب السنّة، الذين لا يدعمون أُطروحة"دولة العراق الإسلامي"حتى لو كانوا ضد الأميركيين، وضد الحكومة العراقية القائمة! وقد قاموا بالفعل بقتل بعض أقارب الشيخ الضاري واستناداً الى فتوى بالتكفير وإحلال الدم، باعتباره واعتبارهم يعارضون تطبيق شرع الله الذي تقوم به دولة العراق القاعدية! ولذلك وجدت"هيئة علماء المسلمين"نفسها في مؤتمر مكة لتحريم سفك الدم العراقي. كما وجدت نفسها الى جانب الجهات التي تقاتل"القاعدة"في بعض مناطق العراق السنّية، من دون أن تتحسن علاقاتها بالأميركيين أو بحكومة المالكي. وهكذا فإن"الفتوى"لدى المتشددين الإسلاميين صارت نوعين اثنين لا علاقة لهما بالمعنى القديم لها: إحلال دم فلان أو عِلاّن من طريق تكفيره مثل تكفير الشيخ عمر عبدالرحمن للرئيس السادات، والأمر بفعل هذا الشيء أو تركه، ومن ضمن ذلك فتوى إنشاء دولة العراق الإسلامية. ومُصدر الفتوى في العادة هو رئيس الجماعة أو فقيهها، ولذلك لا خيار فيها بين الفعل والترك. وقد عُرفت هاتان الوظيفتان للفتوى لدى الإسلاميين المتشددين على نطاق واسع في النزاع الداخلي في الجزائر منذ العام 1993 - 1994، أرادت"هيئة علماء المسلمين"من وراء اجتماعها في عمان توجيه رسائل باتجاهات شتى، وأهم تلك الرسائل الإصرار على استعادة"الفتوى"من أيدي المتشددين. وقد تنجح الهيئة في ذلك لأن الوضع في العراق استثنائي ولن يتحول الى مسألة تأسيسية. بيد أن المؤسسات الدينية التقليدية تزداد ضعفاً، وأسباب ذلك كثيرة ولا تقتصر على اغتصاب الإسلاميين لبعض صلاحياتها وهي تقليدياً القيادة في الشعائر، والتعليم الديني، والإفتاء. * كاتب لبناني