ظنّوا أنه مستدير وكبير ويأتي كلما كانت هناك الحاجة له. ويقول الكبار إنه أمن قومي، في حين يمسك بتلابيبه الصغار باعتباره أمناً غذائياً. وهو قرين الأحبّة الذين رحلوا، حيث رقد عليه الكباب والتفت فيه الكفتة، وخليل ما تبقى من فول وفلافل وربما باذنجان. ويعرف المصريون أنهم إن جاعوا وجدوه، وإن غاب ثاروا من أجله، وإن فاوضهم أحدهم عليه استشعروا الخطر واستنفروا الهمم من أجل مواجهة من ينوي استهداف «رغيف العيش». «كله إلا رغيف العيش!» صيحات تحذيرية انطلقت عبر الأثير المرئي والمسموع الداعم للنظام والمدافع عن السياسات والمحافظ على خط سير التوجه العام في الدولة، لكن رصد تحركات تهدف إلى المساس بالرغيف تثير القلق وتستوجب الحذر. ولا يُستثنى من ذلك جهود جس النبض التي تخلط علم الاجتماع بالسياسة، وجوانب النفس بالإعلام، وقياس مسببات الاضطراب في رد الفعل الشعبي. الشعب الصابر الصامد الهاضم زلط الإجراءات الاقتصادية شديدة الإيلام والمتحمل ضبابية رؤى حاملي حقائب الاقتصاد استشعر قلقاً كامناً وجد نفسه مستنفراً مستيقظاً متوعداً في حال اقترب أحدهم من رغيف خبزه. في أول كانون الثاني (يناير) الماضي، قال وزير التموين الجديد الدكتور علي مصيلحي إن رغيف الخبز المدعم خط أحمر لا يمكن المساس به. وفي آذار (مارس) الجاري أصدر مصيلحي القرار الرقم 5 لسنة 2017 القاضي بتخفيض حصة «الكارت الذهبي» (البطاقة الذهبية) للمخابز من ثلاثة آلاف إلى 500 رغيف، واصفاً إياه بأنه «تصويب لوضع كان خاطئاً». وقد أسفر ذلك عن عودة لمشهد الطوابير المتناحرة أمام أفران الخبز المدعم، ومنها إلى تجمهر ل «عشرات» بحسب وسائل إعلام غير تحريضية ورؤى العين المجردة، أو «مئات» بحسب وسائل إعلام محتقنة وروايات شهود عيان غير موثقة، أو «آلاف» المواطنين بحسب وسائل إعلام معادية تتخذ مواقف مضادة من النظام المصري ومن يدعمه. فمن «تظاهر العشرات لعدم تمكنهم من الحصول على الخبز المدعوم» و «لا صحة لخفض حصة الخبز المدعم على بطاقات التموين»، إلى «الأمن يفض احتجاحات الخبز» و «أزمة الخبز سوء إدارة»، وأخيراً إلى «إرهاصات ثورة الجياع» و «ما الذي ستُسفر عنه تظاهرات الخبز العارمة في مصر؟» و «تظاهرات الخبز تهز مصر السيسي» ... أخذ «رغيف العيش» يتأرجح بعنف بين تغطية إعلامية لقضية تمس 93 مليون مصري، وتسخينة إعلامية لإشعال الأوضاع وإضرام النيران في القلق المكتوم أملاً في ثورة جياع طال انتظارها أو هبّة فوضى تعرقل أمدها. كل ذلك وحقيقة الأزمة ومعلوماتها غائبة. غياب معلومات مثل غضب أصحاب المخابز من تقليل الحصة وعمدهم إلى إغلاق مخابزهم للضغط على وزارة التموين للعودة عن قرار التقليص، وأن إجمالي قيمة الدعم المخصص للبطاقة الذهبية يبلغ بليوني جنيه مصري نصفها لا يذهب إلى المواطنين بسبب فساد أصحاب المخابز الذين دأبوا على بيع نسبة من الخبز المدعوم بأسعار أعلى، وأن خسائر الحكومة الناجمة عن اختراق نظام صرف الخبز عن طريق ظاهرة «البطاقة الدوّارة» تجاوزت بليون جنيه مصري، وأن المنظومة برمتها مخترقة من أنياب الفساد المعششة في كل صوب، بدءاً بالبعض من أصحاب المخابز مروراً بالبعض من سائقي السيارات التي تنقل الدقيق وانتهاء بالبعض من العاملين في وزارة التموين نفسها. نفَس خبراء علم الاجتماع والسياسة وعلم النفس كاد ينقطع من فرط التحذير من عدم المساس بقواعد الأمن القومي- الغذائي في مصر، ألا وهو رغيف العيش المدعوم. ويشمل المساس المقصود زيادة السعر، أو تغيير الشكل، أو التلويح بتقليل الحصة، أو الإشارة إلى تصغير الرغيف، أو اتباع أسلوب جس النبض بهدف تحويل الدعم من عيني إلى نقدي، أو تقليصه من خمسة إلى ثلاثة للفرد يومياً. وبُحّ صوت الاختصاصيين مطالبين بحتمية دراسات الجدوى الحقيقية وقياسات توجهات الرأي العام وقدرات المال الخاص الفعلية قبل التفكير في التلويح باقتراح أي تغيير. التغيير الذي قرره وزير التموين خضع للتعديل حقناً للاستنفار الشعبي ودرءاً للمتربصين من هواة الصيد في مياه الرغيف العكرة. وقبل ساعات قرر وزير التموين تسليم مئة ألف بطاقة ذكية للمواطنين ورفع حصص هذه البطاقات في أربع محافظات هي تلك التي شهدت تعاظماً للأزمة، مع عدم الاعتماد على البطاقات الذهبية في المخابز. نزع مصيلحي فتيل الأزمة موقتاً، مع إصراره على أن منظومة الخبز المدعوم الحالية فتحت باب الفساد على مصراعيه. ويتوقع أن تُعاد الكرة مرة أخرى، ولكن ربما من باب مغاير أو بتكتيك معاكس.