مرت أمس إحدى وعشرون سنة على وفاة الكاتب الفرنسي جان جينه. ومنذ رحيله لم يفتأ حاضراً في الساحة الثقافية الفرنسية والعالمية من خلال اعادة تقديم مسرحياته وإصدار طبعات جديدة من كتبه، وأيضاً من خلال مقالات وكتب تحاول طرح نزعته اللاسامية التي يسعى البعض الى اثباتها على جينه لأنه كان يجهر بكراهيته فرنسا، ويتلذذ بما ألحقه بها ضباط هتلر من هزائم... لكن الكتاب الذي أصدرته الروائية اللبنانية دومينيك إده بعنوان"جريمة جان جينه" دار سوي، باريس يتعدى اطار الخصومة الجدالية الى تقديم تحليل شامل لمفهوم الكتابة عند جينه، وموقفه من المجتمع والدولة والعنف، مع استحضار العناصر البيوغرافية التي أثّرت في مساره، سواء على مستوى حياته الجنسية المثيلة أو رفضه الجذري مواضعات المجتمع البورجوازي ومؤسساته الدينية والأخلاقية. والواقع أن هذا الكتاب يتميز، فضلاً عن لغته الدقيقة وتعبيراته الأنيقة باستثمار صاحبته معرفتها الشخصية لجينه، وتقديم تصور مركب يعيد تأويل النصوص انطلاقاً من مقارنة بين دوستويفسكي ومفهومه للجريمة، وبين تجليات هذه الأخيرة في كتابات جينه. من هذا المنظور، نجد التحليل يستعين بأدوات مختلفة، انطلاقاً من بعض الوقائع التي سجلتها ذاكرة الكاتبة حين لقاءاتها بجينه، ووصولاً الى توظيف مفاهيم فرويد وأفكار نيتشه عن العزلة والانسان الأعلى ومحاربة النظام الفكري والاجتماعي القائم... على هذا النحو، ومن خلال لمسات مكثفة واستشهادات متنقاة، يرتاد القارئ مع دومينيك إده مجال الرؤية التي تتوسلها للنظر الى نصوص جينه في حيويتها وجدليتها الداخلية المتماسكة، نتيجة موقفه الحياتي الذي تبلور لديه منذ وعى أنه لقيط، الى ذلك المشهد الأخير الذي يحدثنا عنه في"أسير عاشق"، عندما أمضى ليلة بغرفة الفدائي حمزة في إربد، وما تخايل له من حضور لأمه هو، من خلال أم حمزة:"ما دام الابن في القتال هذه الليلة، فقد كنت أقوم مقامه في حجرته وسريره. لليلة واحدة وزمن مبادرة بسيطة ومع ذلك فهي كثيرة، كان شيخ أكثر هرماً من هذه المرأة يصبح ابنها، ذلك أنني"كنت قبل أن تكون". طوال ذلك الفعل الأليف - العائلي؟ - كانت هذه المرأة الأفتى مني هي أمي، في الأوان نفسه الذي كانت تظل فيه أم حمزة..."أسير عاشق"، ص 213، ترجمة كاظم جهاد. وقد أوضحت إده أن الشعور بالوحدة المطلقة، كان يتحدر من افتقاد جينه أمه، لا من غياب أبيه المجهول الذي ولد لديه رد فعل رافض لجميع صور الأب وما تمثله من سلطة وبطريركية. نتيجة ذلك، أعدم جينه شخصية الأب من مجموع نصوصه، أما الأم، فستظل صورتها تلاحقه حتى عندما أقام بين الفلسطينيين في الأردن سنة 1970، فاستحضرها عبر تخييل ذاتي يكشف عمق الجرح الذي خلفه غيابها في نفسه. جينه ودوستويفسكي من الفقرات المهمة في هذا الكتاب، تلك التي خصصتها المؤلفة لاستجلاء نقط الاختلاف والتفاعل بين الروائي الروسي والشاعر الفرنسي. وتنطلق المقارنة من مسألة قتل الأب والمكانة التي تحتلها الجريمة في روايات دوستويفسكي وجينه. وتتخذ الكاتبة من النص القصير الذي كتبه جينه قبيل موته بعنوان"الأخوة كرمازوف"، مدخلاً للتحليل والمقارنة، ذلك أن جينه انتبه الى تهميش دوستويفسكي لأحد الاخوة الأربعة وهو سمير دياكوف الذي ولد هو الآخر لقيطاً وكانت أمه خادمة في جناح قصر الأب كرمازوف... وباستحضار مسار سمير دياكوف الذي أقدم على قتل فيودور الأب، تتضح الصفات المشتركة بينه وبين وضعية جينه اللقيط، الكاره فرنسا والمستظلين بالشرعية، مثلما هو حال الشخصية الروائية التي تعلن داخل النص كراهيتها روسيا والأسياد المتدثرين بغلائل الفضيلة. يقول سمير دياكوف الأخ المهمش، الخادم في رواية"الأخوة كرمازوف":"أريد أيضاً أن أوضح لكم هذا المساء، ان القاتل الأساسي والوحيد هو أنتم وليس أنا، على رغم أنني قتلت قانونياً، أنتم من قتل". وباستدعاء المحطات البارزة في حياة كل من جينه ودوستويفسكي، تبرز دومينيك إده أن هوس الكاتبين بالجريمة، وطريقة فهم كل منهما لها، هو ما ينعكس على موقفهما من معضلة الشر وعلى طريقة معالجتها في النصوص. والاختلاف بينهما كبير وإن اشتركا في الانشداد الى الجريمة والرغبة في القتل، لأن جينه أوكل ارتكاب الجريمة الى عشاقه الذين سيصبحون أبطالاً لديه، أكثر مما هم أبطال في روايات. أما دوستويفسكي فسيحمل الشر معه ليزرعه في نصوصه، مولداً"غابة من الغيلان الملاحقين بالملائكة". وتلخص إده الاختلاف بين الكاتبين على هذا النحو:"عند جينه، الاحتفال لا يتوقف بل هو يتحدر من الحداد. والموت، عنده: شرط للحياة وبرهان عليها. والعكس بالنسبة الى دوستويفسكي، لأن الموت يعاقب الحياة على الاغتباط، فيخصيها. من هنا ستنبثق - عبرهما وعبر تقاطعهما - المسألة المطروحة على كل كائن بشري: أي استمرار الحياة بعد الموت..."ص52. من هذا المنظور، يبدو الفرق كبيراً بين الكاتبين بخاصة في مجال الانجاز الفني والأخلاقي:"وإذا كان علي أن أبرز في جملة واحدة، الإضافة الأكثر اثارة في عمل جينه، فسأقول بأنها تتمثل في ضبط هذا"التوافق": في تلك اللحظة"المشبركة"التي تجعل الموسيقى خلالها ممكناً تشغيل الغواية، فيسكن الجحيم والجمال تماماً في نفس المكان"ص55. في المقابل، لا يعتبر دوستويفسكي أن الجمال يمكن أن يحمل خلاصاً لمسألة الشر والجريمة، بل قد يقود الى الجنون والغيرة. ويبدو جينه، في نهاية التحليل، مضاداً لراسكولنيكوف بطل"الجريمة والعقاب"وكذلك للأخوة كرمازوف، هذا ما جعله يدرك أن عدم شعوره بالذنب سيكون أمضى سلاح سيستعمله على الدوام لمناهضة العالم. هكذا نجده، على مستوى علاقته بفرنسا، يفصح عن فرحه"لكون الجيش الفرنسي استسلم أمام جنود كابورال نمسوي"، ما جعل البعض يستنتجون أنه كان باستطاعة جينه أن يساند الجيش النازي. لكن دومينيك إده تدحض هذا الرأي قائلة:"أن نربط جينه بالمشروع النازي"، معناه أننا ننكر ونمحو ما قام عليه عمله الأدبي وحياته: أي العزلة الأكثر جذرية التي تحصن داخلها بكل الوسائل ومن ضمنها العنف، ليناهض الهيمنة وقانون الأقوى وكذلك النظام والدولة والجماهير المتحدة والاستعراضات العسكرية ص 70. نزع الأقنعة يشتمل هذا الكتاب أيضاً، على مقارنة لمّاحة تعقدها إده بين نيتشه وجان جينه، إذ أن الأول سبق الثاني بخمسين سنة الى انتقاد نظام الفكر القائم، ونزع الأقنعة عن الفلسفات المهدئة والغارقة في الميتافيزيقا. يشترك كل من الكاتب والفيلسوف في رفض المفهوم السائد للأخلاق، وفي قلب دلالات القيم وبخاصة ما يتصل بمعنى الخير والشر، الحقيقة والكذب، والموقف من الدين وتقديس التوحيد وطقوس المسيحية المموهة... كما يشترك جينه ونيتشه في حبهما اليونان واعجابهما بديونيزوس، وربط القسوة بالاحتفال، وتمجيد الانسان المنعزل، المتوحد، المتطلع الى القوة الأعظم، غير المبالي بالمثل الأعلى الديموقراطي... لكنهما، مع ذلك يختلفان: نيتشه في موقفه الرافض، المنتقد"يعتبر الهدم بمثابة عبور ومرحلة نحو البناء"، لأن هدفه"تأكيد الحياة"ومعها ظهور"انسان جديد"، وانتصار المستقبل على رماد الحاضر"ص 79. أما جينه، فلا يحمل أوهاماً تجاه المستقبل: لأن مشروعه ووسيلته"الايجابية"هي أن يكون"في حد ذاته وسيلة وغاية مندمجتين، ونموذجاً لتكسير النظام الذي يعيش عليه الناس"ص80. لأجل ذلك، دائماً"يلعب"جينه مع الزمن في الحاضر، والماضي والمستقبل هما مجرد وسيلة لاقتناص اللحظة في حاضرها:"إن قوة جينه لا تسعى مطلقاً الى أن تقدم حلاً أو أن تفسر، بل همها أن تذوب وتدمر"ص80. وأكثر ما يتجلى هذا الموقف الجذري لجينه في ما قاله في نص"الطفل المجرم":"أما أنا فقد اخترت: سأكون في جانب الجريمة". وتستخلص دومينيك إده في نهاية التحليل أن نيتشه مزج بين لغة لوثير والشكل الشعري للانجيل، بينما اختار جان جينه لغة شاتوبريان في كتابه"عبقرية المسيحية"ليجعلها في خدمة"المسيح المضاد"! إن القراءة التي تقترحها دومينيك إده في كتابها"جريمة جينه"، تروم تحرير هذا الكاتب الاستثنائي من التأويلات القصيرة النظر التي تسعى الى حصر مداراته في فلك السياسة والخصومات الجدلية، لذلك تؤكد على أن جينه:"كان ملتزماً الىجانب المقهورين والضعفاء والمعوزين، غير أن كفاحه لم يكن من أجل العدالة بقدر ما كان ضد الظلم"، وهذا صحيح لأن جينه لم يسع الى صوغ بديل ينقذ العالم من ويلاته ومصائبه، على العكس، كان يرى نفسه دوماً في صف المعارضة على نحو ما عبر عن ذلك:"أريد من العالم ألا يتغير كي أسمح لنفسي أن أكون ضد العالم". وتكتسب قراءة إده أهميتها أيضاً من كونها أثارت الانتباه الى أنها لا تريد أن تفكر مثل جينه أو أن تؤيده، وإنما أن تفكر انطلاقاً منه. ص 30. من هذا المنظور تأتي ملاحظاتها ومقارناتها بمثابة نوافذ توسّع دائرة الرؤية. وتلحم نصوص جينه بالأفق الأرحب الذي شيده على أساس وضعه المتوحد. ورفضه الجذري. واستحضاره الدائم للموت. وكل ذلك أعطى لجينه حرية التمرد والمناهضة والجهر بالرأي ضد كل ما يمثل التسلط والقهر والتدجين. تقول دومينيك إده في نهاية كتابها:"أعرف منذ الآن لماذا كتبت هذا الكتاب. ذلك أن فهم جان جينه قادني الى أن أتبنى مقتفية أثره، الوضع الأكثر ملاءمة: ان أوجد في الوسط المناسب لجميع الأضداد، أي ان أوجد في ذلك الموضع حيث الواقع الهش الى أبعد حد، يرغمنا على أن نحتفظ بالدوار كي نحافظ على التوازن"ص 142. * كاتب مغربي