ذهبت في زيارة إلى لبنان أخيراً وكانت تلك هي أول زيارة أقوم بها للبنان منذ الصيف الماضي، عندما كانت الحرب في ذروة احتدامها. وإضافة إلى لقاءاتي مع كبار المسؤولين، ومن بينهم رئيس الوزراء فؤاد السنيورة ورئيس مجلس النواب نبيه بري لمناقشة الوضع السياسي الراهن، توجهت إلى جنوبلبنان لأطلع على عمل قوة الأممالمتحدة المؤقتة في لبنان يونيفيل. كان هناك تناقض كبير بين التشاؤم المحيط بحالة الجمود السياسي الراهنة في لبنان والتفاؤل حيال ما يجري في الجنوب حاليا. فبينما يتخذ الساسة في بيروت مواقف متشددة حيال بعضهم بعضاً، حيث توقفت الدورة البرلمانية عن الانعقاد ولم يتم بعد اقرار المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ الناس في الجنوب بممارسة حياتهم كالمعتاد. ولأول مرة منذ أكثر من 30 عاماً بدأت دوريات لجنود الجيش اللبناني في التجول في أجزاء من جنوبلبنان تدعمها قوات"يونيفيل"، حيث تتولى القوتان معاً مهمة حفظ السلام والمساعدة على تحسين معيشة سكان تلك المنطقة. تعد هذه خطوة عظيمة في سبيل تعزيز السيادة اللبنانية، وآملُ في أن تجلب لهم هذه الخطوة الاستقرار الذي ينشدونه من أجل معالجة المسائل السياسية العالقة - بما في ذلك مسألة نزع سلاح الميليشيات. هناك تحديات كبرى أخرى تحدث على أرض الواقع في جنوبلبنان. وأول هذه التحديات هو أنه تم تطهير 10 في المئة من الذخائر العنقودية التي تم إسقاطها جواً أثناء الحرب، حيث أزيلت من أكثر المناطق حيوية مما أدى إلى تخفيض عدد ضحاياها، ومكَّن بعض المزارعين من العودة إلى العمل في مزارعهم، والأطفال من العودة إلى اللعب على السفوح وفي الوديان. وللأسف فقد تسببت هذه المهمة الحيوية رغم خطورتها في إيقاع جرحى - ومن بينهم خبراء إزالة ألغام بريطانيين - وأود أن أثني على هؤلاء الأفراد الشجعان الذين يقومون بهذا العمل المهم. أحد جوانب عمل قوة"يونيفيل"الذي لم أكن أعلم عنه شيئا هو أنهم يقومون بخلق فرص عمل في الجنوب. يبلغ عدد قوات قوة الأممالمتحدة المؤقتة في لبنان 12 ألف فرد تقريبا وكان آخر تعداد دقيق يوم 20 فبراير شباط هو 12.431 - وعلى الأرجح أن الرقم يقترب من 12.500. ويتطلب دعم مثل هذا العدد الكبير من الأفراد دعما من المجتمعات المحلية، ما يُولد بدوره وظائف وفرصاً للعمل. وعليه فقد بدأ الشباب في الرحيل عن بيروت والالتحاق بأعمال ممتعة ومجزية الأجر في الجنوب. وأخبرني قائد قوة"يونيفيل"، الجنرال غراتزيانو، أن الأهالي يثقون بقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وأنهم الآن يشعرون بأمان أكثر في المنطقة. كما أن أعمال الاعمار تجري الآن على قدم وساق في كل مكان لأن الأسر تشعر بالثقة في إعادة بناء بيوتها وحوانيتها وطرقاتها وجسورها التي كانت قد دُمرت في الصراع الشنيع الصيف الماضي. وهناك أثر جانبي آخر لوجود قوة"يونيفيل"التي تمت زيادة حجمها في لبنان، وهو أن أفراد القوة العسكريين يتمكنون أحيانا - من خلال تعاطيهم مع المجتمعات المحلية - من تقديم بعض الإسهامات التي تعين السكان المحليين في حياتهم اليومية. وأحد الأمثلة على ذلك هو أحد أفراد القوة الدولية - وهو هندي - كان طبيبا بيطريا، وكان حتى وقت قريب هو الطبيب البيطري الوحيد في جنوبلبنان، حيث قام وقتها بالكشف على ومعالجة آلاف الحيوانات التابعة للمزارع المحلية منذ وصوله إلى هناك. وبالطبع أصبح هذا الجندي واحدا من أكثر الأفراد شعبية في تلك المنطقة. وبالتالي يبدو الوضع في الجنوب على أنه قصة نجاح صالحة للنشر: حيث تجد هناك الوظائف والسلام والتعاون والجيش اللبناني يسيطر على زمام الأمور. ويا له من نقيض عما كان عليه الوضع خلال زيارتي في تموز يوليو الماضي! ولكن السؤال هو هل سيدوم هذا الحال أم أنه لن يدوم. لكي يدوم الوضع على ما هو عليه لا بد أن يحدث شيئان. الأول هو أن الساسة في بيروت في حاجة لأن يجعلوا الحوار أولويتهم القصوى، على كلا المستويين القيادي والبرلماني. إن إيجاد حل سياسي مستديم هو ضرورة حتمية إذا ما قُدِّر للبنان أن يبقى في حالة سلم، وأن يبدأ في التعافي اقتصاديا: لأن الاستثمارات الدولية لن تتدفق إلى لبنان وسوف تبقى الفنادق شاغرة حتى يقتنع الناس بأن السياسة اللبنانية أضحت أقل تقلبا مما هي عليه الآن. ويتعين أن يكون الاتفاق على تشكيل محكمة في قضية اغتيال الحريري جزءاً من هذا الحل السياسي لأن هذه القضية حيوية ليس فقط بالنسبة للشعب اللبناني لكي يرى العدالة تتحقق، وإنما هي أيضا حيوية بالنسبة للثقة الدولية في لبنان. وليس من الصعب التوصل لمثل هذا الحل السياسي إذا ما وضع الساسة مصالح لبنان نصب أعينهم في المقام الأول. أما الشيء الثاني الذي يلزم أن يحدث هو أن تكف الدول الأجنبية عن التدخل في شؤون لبنان الداخلية. ويجدر بكل جيران لبنان في المنطقة - وعلى الأخص سورية وإيران - أن يساعدوا لبنان على تحقيق الاستقرار إذا ما أردنا أن نتجنب العنف والدمار اللذين شهدناهما في العام الماضي. وسيستدعي ذلك من إسرائيل أيضا أن تقوم بدورها لدعم السلم على الحدود. وقفت فوق الحصن القديم المسمى قلعة الشقيف، ومن هناك أطلقت ناظري عبر الامتدادات الشاسعة لتلك الأرض الجبلية الجميلة. وأينما مددت بصري رأيت في كل اتجاه آثار صراعات الماضي متناثرة على أطرافها وطرقاتها الرئيسية: أبراج مراقبة مهجورة ومتاريس مهدمة وأنقاض مراكز قيادة سياسية وعسكرية تنامت فوق أطلالها الأعشاب. ولم تكن الدلائل على الاضطرابات الأخيرة ببعيدة عن العين أيضا، حيث رأيت مروحيات الأممالمتحدة وهي تراقب الحدود، وقمم التلال تنتشر عليها هوائيات الاتصالات كالأشواك، ووميض كشافات المركبات العسكرية وهي تتحرك في الظلام. وبينما تغيرت المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني تغيرا شاملا منذ توقف العنف في الصيف الماضي، إلا أن المشكلات ما زالت باقية. فمن اللازم أن يتم التوصل إلى اتفاق بمساعدة المجتمع الدولي لحل أزمة مزارع شبعا. وسوف يتطلب ذلك مهارة في التفاوض وتوفير ضمانات، ولكن من الحتمي أن يتم ذلك كجزء من مداواة الجراح العميقة التي غارت آثارها في جسد هذه المنطقة. وأكثر هذه الجراح إلحاحاً هو وجوب تأمين المناطق الحدودية الفاصلة بين سورية ولبنان - وهي المناطق الحدودية التي تخرج عن نطاق مهمات قوة الأممالمتحدة المؤقتة في لبنان - لكي تتمكن الحكومة اللبنانية المنتخبة ديموقراطيا من بسط القانون والنظام على كل جزء من أراضيها التي لها حق السيادة عليها. ذلك يعني الفوز بتعاون سورية، وهي جار ما زال يواصل ممارسة التأثير السلبي في لبنان. فإن أبدت أجهزة الأمن السورية استعدادها للتعاون مع نظرائها اللبنانيين، لأصبح من الممكن البدء في تضييق الخناق على أولئك الذين يزودون"حزب الله"والميليشيات الأخرى في لبنان بالسلاح والمال بصفة غير مشروعة. إن من حق اللبنانيين أن ينعموا بمستقبل آمن يمكنهم من تحويل لبنان إلى بلد يعمّه الرخاء كما يستحق أن يكون. وسوف تساعد المملكة المتحدة من طرفها لبنان على تحقيق ذلك بأي طريقة تقدر عليها. ولكن يتعين على الساسة اللبنانيين أن يقوموا بدورهم في هذا المضمار، تماما كما يتعين على سورية أن تقوم بدورها أيضا. هذا هو ما ينشده كل محبي السلام في هذه المنطقة، وهو أيضا ما نحُثُّ كل الأطراف المعنية على تحقيقه. * وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية