في كتابه الصادر حديثاً عن دار الشروق في القاهرة تحت عنوان "شيء من هذا القبيل"، يكتب إبراهيم أصلان مشاهداته بلغة فنية تجنح إلى الإبداع أكثر مما تجنح إلى التأصيل لمن عرفهم، كالكاتب الكبير يحيى حقي والفنان التشكيلي جورج بهجوري، أو مرحلة الطفولة التي ارتبطت في وعيه بحي امبابة، بطيبة أهله وعشوائية الحياة. وتظل تفاصيل الحياة الصغيرة والهموم الخاصة، والمشاعر الدقيقة، قريبة إلى سرد إبراهيم أصلان الذي يمثل خير تمثيل الكتابة المتمتعة بالروح. ربما لأن ذلك الزمان الذي يروي عنه أصلان كانت فيه الصدارة لدى الناس للقيم والمثل والهموم الكبرى. ثلاث مراحل تضمنت حكي إبراهيم أصلان في كتابه الذي سرده بإتقان يجمع بين طريقته الماهرة في سرد القصة القصيرة بوصفه قاصاً أبى إلا ان يحفر اسماً كبيراً في سرد القصة القصيرة، وكذلك كتبه بنوعية من السيرة الذاتية التي لا يخجل الكاتب أن يعترف فيها صراحة بأن تعليمه لم يتجاوز المرحلة الابتدائية الأولى ومن ثم عمله في هيئة البريد، المرحلة الأولى حيث أصلان الطفل المتهم بسرقة القلم الأبنوس القلم الحبر في العصر الحاضر من زميله. المرحلة الثانية إبراهيم أصلان الصبي الذي يعاقبه العم محمد أصلان بعد أن يتهم بسرقة جنيه من إحدى السيدات ويبتاع به بعض الحلوى التي يتناولها مع أقرانه. المرحلة الثالثة وهي أكثر مراحل الحكي زخماً يسردها أصلان بذاكرة حديدية عن نجيب محفوظ الذي كان يعتبره العاديون كافراً علشان"أولاد حارتنا". أفكر الآن بالرجل وفي هذا المشوار الطويل الذي هو أقرب إلى أسطورة منه إلى حياة واقعية، في هذا المشوار الذي فاض"ص 116، ومحمد عودة الذي اندهش وتبللت عيناه عندما قال له أصلان إن رواية"قنطرة الذي كفر"لمصطفى مُشرَّفة المكتوبة بالعامية تنبع أهميتها من قدرتها على التأكيد بأن المحلية ليست ديكوراً، ولكنها قدرة على التعبير عن روح ما"ص 64 وما أثار عودة في كلمات أصلان أن مُشرَّفة عاش عمره يتمنى أن يسمع هذه الكلمات. ثم يحيى حقي الإنسان الديبلوماسي الأرستقراطي الذي عبّر في كتاباته عن المشهد الشعبي ومعاناته له هي معاناة الذواقة المستمع وليست معاناة من اكتوى به وقد نصح حقي أصلان قائلاً:"اللغة ليست فقط الوسيط الأمثل لتقديم ما هو مرئي لكن الكاتب نفسه إذا اهتم بمعرفة طبيعة الإمكانات التعبيرية لهذه الفنون الأخرى، أمكنه أن يُغني أدواته"ص 66. وصف أصلان أيضاً لقاءه بمحمد أبو سيف السيناريست المعروف الذي كان مدرساً لمادة اللغة الإنكليزية الذي كان مؤثراً فيه إبان مرحلة الطفولة. والسؤال الذي يطرح نفسه هل سرد أصلان لتلك الوقائع الشخصية والحكي الذي يمتد لخمسين عاماً جاء للسرد أم لفرض مساحة من حرية البوح التي يقوم بها الإنسان في مرحلة متقدمة من العمر يشعر معها باكتمال التجربة ونضوجها ومن ثم وجوب إخراجها إلى النور؟ ربما يساعدنا التنقيب وتأويل نصوص أصلان في كتابه"شيء من هذا القبيل"للرد على هذا السؤال. ثم النقد الاجتماعي المضمر في طيات كتابه والذي من الصعب ألا تجده في أي من نصوص أصلان القصصية أم الروائية أم السِيرية مثل هذا الكتاب وسابقه خلوة الغلبان. أتصور أن النقد الاجتماعي للمجتمع المصري الذي صدر عن غير المصريين من أهم ما يلفت في هذا الكتاب، ففي لقاء نظمته أخيراً المؤسسة السويسرية بروهيلفتسيا في القاهرة تحت عنوان"الأدب في عصر الميديا"كان التساؤل الأساسي حول دور الكلمة المكتوبة ودور الأدب إن كان قادراً على الإمساك بصورة الواقع ونقله في شكل مختلف، حضر من سويسرا الكاتب كلاوس ميرسل، ورصد أصلان إعجابه بمشروع مكتبة الأسرة الذي يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لأنه خواجة - وتظهر الدلالة الواضحة للكلمة - حدثنا باعتزاز عن مشروع مكتبة الأسرة وعشرات الآلاف من الكتب التي تطبع وتباع وتقرأ وتؤثر وبدا سعيداً بهذا الكلام إلا انه حضر الجلسة التالية غاية في الذهول... أخونا كلاوس خرج مساء كي يتمشى في طريق النيل وعبر طريق العربات المسرعة إلى الرصيف الآخر ورأي سيدة تفعل مثله إلا أنها أثناء العبور انخلعت فردة حذائها في نهر الشارع وقضت بقية الليل في محاولات مستمرة من الإقبال والإدبار كي تستعيد فردة حذائها، كلاوس كاد يحتضر وهو يحكي ما رأى، لقد أصابه اليقين بأننا شعب لا يقرأ"ص 48. وأراد أصلان أن يسرد تلك الواقعة كي لا يقدم النقد للمجتمع المصري الذي تدل ظواهر الأشياء على انتشار الثقافة بينما السلوك الفعلي ينفي ذلك، ففي بلد يتوجه فيه مشروع كامل لإنتاج الكتاب زهيد الثمن كي ينهض بعقول الشعب نجد أن كل ذلك يسري هباء لأن الواقع أن نسبة الأمية والفقر تمنع الناس من اقتناء الكتاب ثم قراءته. وذلك ما يؤكده أصلان في عرضه للمسائل الكُبرى التي تؤرق البشرية قائلاً:"إن تطلع طفل إلى الطعام في يد الغير هو تعبير عن محنة عظيمة، وارتجافة خوف يعتري إنساناً من لحم ودم لمجرد مروره أمام قسم شرطة لهو اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر"ص 30. هكذا يطور إبراهيم أصلان أسلوباً أكثر تعاطفاً مع شخصياته. عندما كان إبراهيم أصلان هاوياً بلا أي منهج علمي محترف أو واضح آثر أن يكتب حكاياته بحذر بعيداً من المثالية. ومع كل تلك الصفحات من البصيرة والأصالة كتب عن جيران إمبابة البسطاء. وربما يصعب تقديم تعريف دقيق وجامع لكل جنس من الأجناس الأدبية على حدة، بسبب تنوع مضامين هذه الأجناس واختلاطها واشتمال علامات بعضها على علامات البعض الآخر، فلقد حقق إبراهيم أصلان عبر كتابه"شيء من هذا القبيل"كتابة السير الذاتية بالمفهوم الحديث الذي يميل اكثر الى"الأنا بهمومها الخاصة"وتفاصيل علاقاته، بلغة تجنح إلى المباشرة والبساطة. وكل ما تقدم من سرود أصلان ينفي ضرورة تصنيف الكتابة ويسمح بتكوين تعريف عام على أنها سيرة ذاتية كتبها بطريقته المعتادة في الحكي القصصي الشائق.