إذا كانت المجازر في العراق مصيبة للعراقيين وللعرب - وهي كذلك - فإن أقل وصف ينطبق على الغباء الأميركي في ذلك البلد هو الكارثة التي تستنسخ خطايا. ففي اليوم الذي حصد العنف الأعمى أكثر من مئة قتيل بالتفجيرين الانتحاريين على طريق كربلاء، ما زالت واشنطن تصر على انها لا ترى"أي شبه"بين العراق اليوم وعراق صدام حسين، وأن الفارق وجود أمل الآن، في ظل الاحتلال والمذابح اليومية! الأمل لمن؟ للمدنيين المحاصرين بين مطرقة الإرهاب والميليشيات وسندان أجهزة السلطة، أم للدول التي ستشارك في مؤتمر الأمن في بغداد بعد غد؟ لسانهم يدينهم، تلك حال الأميركيين الذين اعترفوا في تقريرهم السنوي حول حقوق الإنسان بارتكاب حلفائهم في بغدادوكابول"تجاوزات"من نوع التعذيب والاغتيال، فيما كان مفترضاً ان تمشي المنطقة كلها في ركاب الحرية والديموقراطية، على طريق العاصمتين. وحين تقر واشنطن مجدداً بأن"جنة عدن"ما زالت بعيدة عن العراق وأفغانستان، إنما تضع ما تسميه"الديموقراطية الناشئة"في البلدين على مبضع الحقيقة، وهو في كل الأحوال يساوي بين افعال السلطة التي ورثت صدام أو"طالبان"، وارتكابات الإرهاب وفظائعه. والحال ان قلة في العالم ما زالت تُصدم بما آلت إليه"تجربة"الغباء في إدارة احتلال العراق، تحت سقف تأهيله وتدريبه على الحكم العادل، أو في دور العرّاب لسلطة في كابول تجد ذاتها مجدداً في مواجهة كابوس عودة"طالبان"الى قلب المعركة في كل ربيع، ومعها خلايا"القاعدة". وإن كانت تلك القلة أدنى من نسبة ال28 في المئة من الأميركيين الذين ما زالوا يمنّون أنفسهم ب"انتصار"في العراق، فالوجه الآخر لمأزق الاستراتيجية التي يروّج لها الرئيس جورج بوش انه لن يستطيع إقناع الكونغرس الديموقراطي بأدوات ضغط فاعلة، تبدّل مواقف بعض دول الجوار، بما فيها ايران، لتسهّل التطبيع الأمني في العراق... على طريق"الانتصار". إن لسياسة العصا والجزرة، التي طالما استعملت في"أدبيات"البيت الأبيض لتبرير الضغوط على إيران وسورية من أجل"تبديل سلوكهما"في العراق وعلى حدوده، محاذير لا تكمن فقط في تحديد الثمار السياسية للجزرة - بافتراض قبول واشنطن تقديم ثمن - بل كذلك والأهم في إيجاد سقف واقعي لنهج العصا. سقف لا يتجاوز قدرة المنطقة على تحمل عواقبه، لأن أهلها باقون، بينما الأميركي راحل الى عمق مياه الخليج. وعشية مؤتمر بغداد، وإذ تتضارب التكهنات حول مفاعيل"التبدل"الأميركي في قبول الجلوس مع الإيراني والسوري الى طاولة"أمن العراق"، تطرح ايضاً هواجس طهران إزاء الخيار العسكري رداً على برنامجها النووي، وهواجس دمشق إزاء عزلتها ومطالبها في ملف المحكمة ذات الطابع الدولي لمقاضاة المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكلٍ مطالبه: أميركا وإيران وسورية، وبينها أكثر من مبرر للقلق من حسابات الصفقات الثنائية، بدءاً من العراق لإخراج بوش من مستنقعه مروراً بالملف النووي الإيراني وانتهاء بملف المحكمة. لكن السؤال هو هل حانت ساعة التسويات، وهل المنطقة قادرة على تطبيع أزماتها، لتفادي كأس الحرب على إيران، ومرارة مواجهات، أقل أثمانها تغيير خرائط؟ وبافتراض تجاوب الولاياتالمتحدة مع الدعوة السعودية الى عقلنة التعامل مع الملف النووي، وتخيّل استعداد طهران لصفقة ما مع واشنطن، تحصد بها إيران جزرة الاعتراف بنفوذها الإقليمي، فالمعضلة في آن أن بوش نفسه يواجه ورطة النفوذ الإيراني، من العراق الى سورية ولبنان وفلسطين. بكلمة أخرى: لن يعطي الرئيس الأميركي ايران ما بيدها، وتعقيدات"فيتنام الثانية"والرياح المذهبية في المنطقة إن لم تخدمها، فهي بالتأكيد لا تسهّل وصول الرئيس الأميركي الى"جنة عدن"... قبل الانكفاء من العراق الى الأساطيل في الخليج. في مؤتمر بغداد، مَنْ يختبر مَنْ؟... أمام واشنطن مزيد من الوقت، ولكن هل هذه حال طهران ودمشق؟