عبر الصحافة الإسرائيلية هذه المرة، اختارت واشنطن تذكير دمشق بلوائح السلوك الأميركية، وبمعايير الثواب والعقاب التي حددها اصوليو الولاياتالمتحدة لمكافأة من يستجيبون "وصاياهم"، ومحاسبة الذين يشقون عصا الطاعة. والجديد في ما نقل عن الرئيس جورج بوش، وما قاله وزير خارجيته كولن باول، هو توجيه انذار آخر إلى سورية، قاعدته رفض الاكتفاء ب"حيادها" السلبي ازاء عملية السلام في الشرق الأوسط، خصوصاً ازاء المقتضيات الأميركية - الإسرائيلية ل"ترويض" المسار الفلسطيني، وكذلك ازاء مقاومة الاحتلال في العراق. ما تطمح إليه استراتيجية الأصوليين في الولاياتالمتحدة، وبغباء فج، أن تتخلى دول في المنطقة عن سياسات "ثوابت" شكلت من وجهة نظر قياداتها صمام أمان لحماية مصالحها، بصرف النظر عن خطأ هذه السياسات أو صوابها. وفي عُرف هؤلاء أن لا قيمة لتوجهات الشارع العربي، ما دام القرار في النهاية سيأتي من فوق، موائماً لمخططات واشنطن، وأن هؤلاء ليسوا معنيين بظهور حكومات في المنطقة بمظهر المتنكر لكل مبادئه وفلسفاته وتحالفاته. وواضح أن إدارة بوش ما زالت تصر على فرض هذا التوجه على عواصم، بينها دمشق وطهران التي عاودت التصعيد مع البيت الأبيض ونهج التفرد الأرعن، بعدما بدت سورية على لسان وزير خارجيتها فاروق الشرع أقرب إلى اليأس من إمكان احتواء المطالب الأميركية لجم المقاومة و"حزب الله" والتنكر لهما، ومعارضة المقاومة الفلسطينية وعملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي وتوسعه ومجازره، وعدم تشجيع المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، ولو بالإعلام والكلام، والاعتراف بكل الهيئات التي تتشكل في بغداد تحت قبعة الحاكم الأميركي بول بريمر وسلطته…. بين كلام الشرع على حماقة أميركية، وتلويح باول ب"فاتورة الحساب" التي ستقدم إلى دمشق إذا لم تبدّل مواقفها في المنطقة، فارق زمني قصير. وإذا اختار الوزير "الحمامة" أن يكون مجدداً في طليعة "الصقور" متوعداً سورية بعزلة، وإبقائها خارج خرائط الطرق، فالأكثر خطورة هو ايحاءات حاول الرئيس بوش عبرها مضاعفة الضغوط، ملمحاً الى امكان وضع علامات استفهام حول استقرار القرار السياسي في ذلك البلد. يأتي ذلك في ظل اقتناع الإدارة بنجاح حملاتها لتفكيك مسارات التحالفات في المنطقة، لتحشر كل دولة في زاوية الرضوخ للاملاءات الأميركية، أو مواجهة فاتورة حساب، لن ترفع الصوت ضدها الأممالمتحدة وشرعيتها الدولية، ولن يجدي معها الغضب السريع للجامعة العربية. وبعيداً من احتمالات مجيء الزائر الأميركي وليام بيرنز الى دمشق، حاملاً "الفاتورة"، يبدو باول حريصاً على أن يكون "سخياً" معها، وهو ارتأى هذه المرة أن "يلعبها عالمكشوف": التزام قواعد السلوك الأميركية التي تعني تحولاً جذرياً في السياسات والتخلي عن كل الأوراق الفلسطينية واللبنانية والعراقية، في مقابل تجارة مع "العراق الجديد" وأسواقه الضخمة. ولم يكن بريئاً تسريب نبأ تغاضي القوات الأميركية المحتلة عن تجارة ما عبر الحدود التي ترصدها وتراقبها عيون البنتاغون. كذلك، لم يكن الوزير "الحمامة" بريئاً وهو يتحدث بلهجة تهديد لدمشق، لأن "كل الوقت في العالم" ليس متاحاً لتتخذ القرارات "الاستراتيجية" في الداخل، وتغيّر. لكن باول كان حتماً أقرب الى السذاجة، ان لم يتجاهل حقيقة هزال الجزرة العراقية التي يغري بها سورية، ثمناً لما تشتهيه واشنطن من تغييرات هي أقرب الى الانقلاب على الذات، بكل المقاييس. كما لم تغب عن ذلك العرض "السخي" روح التحريض الاسرائيلي، باحياء معزوفة احتضان "الحرس الثوري" الايراني، في وقت تبدو دمشق أبعد ما تكون عن أي رغبة في إثارة أي مشكلة اقليمية أو مع ادارة بوش التي تستخدم ميل الكونغرس الى تبني "قانون محاسبة سورية" سلاحاً طيعاً، كلما اقتضت الضغوط. ولكن، في كل ذلك، ولو نجحت الادارة في فرض توجهاتها الاستئصالية في المنطقة، مستغلة الانتصار البشع في العراق للتضييق على كل جيرانه، تتجاهل حقيقة ان سياسة الاملاءات القسرية لن تدفن التحالفات "القديمة" ولو غيّبتها مرحلياً... وأنها كلما أسرفت في الابتزاز كلما كتّلت الرافضين ليراهنوا على وأد العراق "الأميركي"، وقلب المعادلات مجدداً، وراء حدودهم. وسورية كسواها، ولو اقتنعت بالتغيير وضرورته، لن تسعى اليه بعصا اميركية.