تأتي ردود واشنطن سريعة إزاء كل ما يتفق مع مصلحة وسياسة إسرائيل. وفي معظم الأحيان تتسابق مع تل أبيب على رفض أي متغير إيجابي فلسطيني إلى درجة تثير التساؤل عمن يمثل أو يعبر عن سياسة إسرائيل ومصالحها، هل هي واشنطن أم تل أبيب؟ فواشنطن، مثل تل أبيب تريد مع العرب سلاماً ناقصاً وعلى الورق فقط، من دون روح ومن دون تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، بما يمكّن إسرائيل من السيطرة على الأرض والماء والسماء. ويرجع الفضل لحركة"حماس"في أن إسرائيل ظهرت أخيراً بمظهر العاشق الولهان المتمسك بالاتفاقات السابقة التي لم ينفذ معظمها والمتعلق ب "خريطة الطريق" التي أشبعتها تحفظات حتى أفرغتها من محتواها. هكذا كان الأمر مع قرارات قمة فاس عام 1982 التي اعتبرتها كل من واشنطن وتل ابيب كوباً فارغاً، مع أنها كانت قبل ربع قرن خطوة عربية كبيرة نحو حل الصراع العربي الإسرائيلي، وأتت في وقت كان فيه رفض اتفاقات كامب ديفيد أحد محددات السياسات العربية إزاء إسرائيل والصراع معها. وكان من أبرز ما نصت عليه قرارات تلك القمة هو قبول العرب للمرة الأولى وبصورة جماعية بوجود إسرائيل ككيان سياسي وقانوني في المنطقة العربية. ومع هذا قوبلت تلك القرارات بفتور ولامبالاة في واشنطن من قبل إدارة الرئيس رونالد ريغان الذي لم يحرك ضميره ما ألم بالفلسطينيين في مجزرتي صبرا وشاتيلا في الشهر نفسه الذي اتخذت فيه قرارات قمة فاس في ايلول سبتمبر 1982 على يد"الديموقراطية"الإسرائيلية و"مونتسكيو"إسرائيل ارييل شارون. كان لمونتسكيو أثر كبير في اوروبا وأميركا ويتجاهله الآن أحفاد جورج واشنطن الذين يكثرون الكلام عن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان. كان عهد الرئيس ريغان هو الذي دشن رسمياً وعلنياً التعاون الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي ومقولة الشؤم بالنسبة لنا أنه"لم يخدم رئيس أميركي إسرائيل مثل هذا الرئيس"والتي استمرت في التردد في عهد الرئيس جورج بوش الأب والرئيس بيل كلينتون والرئيس الحالي جورج بوش الإبن، ويعتبرها كل سيد في البيت الأبيض وساماً يحرص على نيله، والتي فتحت الباب أيضاً لمزايدة خدمة مصالح إسرائيل غير المشروعة على حساب المصالح المشروعة العربية. ومنذ عهد الرئيس ريغان وكل رئيس أميركي يود أن يبز سلفه بتقديم كل الدعم السياسي والديبلوماسي والعسكري لإسرائيل. لقد حظيت المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت عام 2002 بإجماع يجعل تقسيم واشنطن وتل أبيب للعرب إلى معتدلين وآخرين احتارتا في تسميتهم غير ذي معنى. رد فعل مشابه لمبادرة فاس إلى حد كبير من قبل الولاياتالمتحدة التي لم تر فيها قبولاً عربياً بمطالب إسرائيل التوسعية ومن قبل إسرائيل التي قال شارون إنها أي المبادرة تعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية لإسرائيل، وقصده من ذلك أن المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية مسألة داخلة اسرائيلية لأن اسرائيل لا تعترف بأنها أراض محتلة، تقسم فيها إسرائيل المستوطنات إلى قانونية أنشئت بتمويل إسرائيلي وبأموال أميركية حكومية وغير حكومية، واخرى غير شرعية وهامشية كرافانات ووصف شارون المبادرة العربية بأنها تستهدف إحداث انقسام في إسرائيل وهو قصد غير عربي لأن الانقسام الإسرائيلي لا يوحد الإسرائيليين نحو السلام ويعطيهم الحجة لرفضه تحت ذريعة أن هذه هي الديموقراطية التي يرون أنها تعلو على الشرعية الدولية التي أقرت عدم شرعية الاستيطان وأن اسرائيل دولة احتلال وعلى رغبة المجتمع الدولي في أن يسود المنطقة السلام والاستقرار. وقد أتت هذه المبادرة وانتفاضة الأقصى في أوجها وإرهاب الدولة الإسرائيلي في أعنف درجاته وأشدها وحشية وكان الرد الشاروني المباشر عليها هو الهجوم العسكري الكبير على جنين وحصارها وذبح العشرات من أهلها، وهو ما لم تستنكره الإدارة الأميركية واعتبرته دفاعا عن النفس ضد"الإرهاب الفلسطيني". تلك المجزرة فتحت أعيننا على شيء جديد هو عدم احترام تل أبيب الشريك الصغير لرغبة الشريك الكبير بشخص الرئيس الأميركي الحالي الذي طالبها بأن تنسحب من جنين وبسرعة ولكنها لم تعره أي اهتمام، مما أظهر محدودية تأثير واشنطن التي ترغي وتزبد في كل مكان في العالم وتخيف الكبير والصغير ولكنها تعجز عن ممارسة دور الدولة العظمى عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ومع ذلك فهي لا تكترث لفضح إسرائيل عجزها هذا ولا تفرض عليها أي عقوبات أو حتى تهدد باستخدامها أو تخفض مساعداتها لها. وهذا يعكس قوة الشراكة الأميركية - الإسرائيلية التي بدأت بعدوان عام 1967 الذي وحد السياستين الأميركية والإسرائيلية في المنطقة مما أضعف الدور الدولي في حل الصراع العربي الإسرائيلي وجعل ذراع إسرائيل العسكرية طليقة طول الوقت من دون قيود أو مراعاة لأبسط قواعد القانون الدولي أو خوف من مجلس الأمن، الذي لم يعد يكشر عن أنيابه إلا ضد الدول غير البيضاء وغير المنتمية الى الحضارة الغربية. ولم يحدث في التاريخ أن دولة عظمى خاضت حروباً لخدمة مصالح دولة اخرى كما حدث ويحدث في تطبيقات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. قبل غزو العراق كانت واشنطن ولندن تزعمان أن النظام العراقي السابق خطر على جيرانه وكانت إسرائيل هي بيت القصيد وليس الكويت التي احتلت عام 1990 أو إيران التي هوجمت عام 1980 من قبل ذلك النظام. وفي الأزمة النووية الإيرانية مع الغرب لا تخفي واشنطن أن أحد أسباب المواجهة مع إيران عسكرياً هو حماية أمن إسرائيل والمصلحة الإسرائيلية - الأميركية المشتركة في أن تبقى إسرائيل القوة النووية الوحيدة في المنطقة. ولو كان الأمر غير ذلك لعززت واشنطن سياستها إزاء إيران بالتذكير بالمصلحة العربية الجماعية المؤيدة من قبل غالبية دول العالم في أن يكون الشرق الأوسط كله خالياً من السلاح النووي وأنها لا تقبل استثناء أي دولة فيه سواء أكانت إيران أم إسرائيل، وأن الكل أمام الالتزام بالشرعية الدولية سواء. ومن أجل إسرائيل ستكون واشنطن سعيدة باستخدام القوة العسكرية ضد إيران ومن المؤكد أنها ستنصح إسرائيل بالبقاء بعيداً عن هذا الصراع الذي تخلق واشنطن مبرراته بالتدرج لأن هذه المنطقة يجب أن تشغل دائماً بالحروب. نحن الآن أمام وحدة عضوية في الموقفين الأميركي والإسرائيلي من كل قضية إقليمية أو دولية تدفع واشنطن وحدها ثمنها من خزانة تعاني من العجز والديون، وبشراً بالآلاف من الأميركيين الذين يموتون يومياً في العراق لخدمة"أمن"إسرائيل أحد المستفيدين الاقليميين القلائل من غزو العراق واحتلاله. لقد اعتادت اسرائيل أخذ كل شيء مجاناً من واشنطن، وحتى دفعت الأخيرة ثمن الانسحابات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة ابتداء من انسحابها من ياميت المصرية وأخيراً من المستوطنات الإسرائيلية في غزة. لقد فضحت حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية واشنطن مجدداً، إذ انها لم تر في بيان رئيس الوزراء إسماعيل هنية إلا الجزء الفارغ من الكوب. لقد قال هنية ما لم يقله غيره من قادة"حماس"من قبل، كالقبول بدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 أي اعتراف"حماس"بقراري مجلس الأمن رقم 242 و383، وبوضوح أكبر القبول بالشرعية الدولية التي ترفض التوسع الإسرائيلي الى ما وراء حدود 4 حزيران يونيو عام 1967 التي تتنكر لها اسرائيل ولا تأبه بها ما دام حضن واشنطن ملاذاً آمناً لها. أما ما قاله هنية عن الحق الفلسطيني في الدفاع المشروع عن النفس ومقاومة الاحتلال، فقد كان ثقيلا على سمع وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، وهي الأستاذة المحاضرة سابقا التي لا تجهل التاريخ الأميركي الذي تعد مقاومة المحتل من أنصع صفحاته، ويريد أحفاد جورج واشنطن من أجل مصلحة الاحتلال الإسرائيلي أن يعلنوا براءتهم منه. إن الدرس الذي يتكرر في علاقة العرب بالولاياتالمتحدة هو أنه كلما خطا العرب والفلسطينيون نحو السلام والمصالحة التاريخية مع إسرائيل يقابلون بلاءات أميركية - إسرائيلية لا تعني سوى أن واشنطن وتل أبيب لا تريدان إحلال السلام في المنطقة وأنهما تخدعان المجتمع الدولي في الزعم بأنهما أحرص عليه من العرب. * كاتب يمني