منذ تموز يوليو الماضي ما فتئت تركيا تتحدث عن حقوق لها في العراق بپ"بموجب القوانين الدولية" التي أكدها اتفاق العام 1926 ومن بعدها اتفاق العام 1936، وهو ما أكده الأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي الجنرال تونجار كلينغ بالقول: "عندما خرجنا من هناك العراق وتركنا الموصل وكركوك لانكلترا في العام 1926، فإننا اتفقنا على عراق موحد غير مقسم... وبطبيعة الحال، هذا حقنا بموجب القوانين الدولية، كما انه يخصنا كثيراً حيث إن النار التي تندلع فيه قد تنتشر الى أرضنا". وذهب رئيس الحكومة التركية الى أكثر من ذلك فتلاى"فعل الندامة"لعدم مشاركة تركيا قوات التحالف في غزو العراق، خصوصاً انها قادرة على أن تكون اللاعب الأساسي في معادلات العراق المستقبلية، بعدما أثبت رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزب"العدالة والتنمية"الحاكم أن تجربته السياسية والعقائدية انعكست في شكل إيجابي على المنطقة الإسلامية عموماً، ودفعت أردوغان للقيام بمبادرات عدة لتحقيق الحوار الفلسطيني . الإسرائيلي، ولفتح نافذة تسوية بين سورية وإسرائيل، كما عمل بجد على منع الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني واللبناني - اللبناني بعد أن رفض أن تكون بلاده طرفاً في أي معادلة سعت من أجلها واشنطن ولندن تحت شعار التصدي لإيران النووية. وهو ما ساهم في الحوار الإيراني - السعودي الذي بدأ بتبادل زيارات بين علي لاريجاني والأمير بندر بن سلطان وانتهى بزيارة الرئيس أحمدي نجاد الى المملكة العربية السعودية وبعد أن أثبتت الرياض دورها الإيجابي في الاتفاق الفلسطيني - الفلسطيني ورغبتها الجدية في تحقيق المصالحة اللبنانية أيضاً. ولم تتجاهل أنقره خلال تحركاتها هذه مصالحها وحساباتها الوطنية، وهي حسابات فرضت على أنقره أحياناً مواقف صعبة نجح أردوغان في تجاوزها من خلال سياساته الواضحة والبعيدة من الاستفزاز والتوتر بخاصة في ما يتعلق بالعراق الذي ما زال الموضوع الأكثر أهمية وصعوبة في حسابات أنقره الإقليمية، والذي تلت من أجله"فعل الندامة"وذلك للأسباب الآتية: 1 - المسألة الكردية: بقيت هذه المسألة، منذ تأسيس العراق 1921، والجمهورية التركية 1923 من أهم المسائل التي تمحورت حولها سياسة الدولتين، داخلياً وخارجياً، حتى مجيء الاحتلال الأميركي لتغدو المطالب الكردية في تأسيس دولة فيديرالية لهم في شمال العراق هاجساً كبيراً لحكومة أنقره، لا سيما أن الأخيرة تخشى عمليات حزب العمال الكردستاني في الأراضي التركية. يضاف الى ذلك القلق الذي ينتاب الحكومة التركية من قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، تؤدي الى تأجيج مشاعر أكراد تركيا في شأن الاستقلال، أو المطالبة بحقوق مضافة أفضل مما منحتهم أنقره أخيراً، ناهيك عن توفير ملجأ آمن لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وتركيا محقة في هواجسها تجاه التحولات الكردية، هي محقة في التحرك ضد انشاء دولة كردية، واتخاذ الخطوات الضرورية لمنع قيامها. لكن رد فعلها بدا قوياً جداً الى درجة أنها تكاد تواجه الخسارة في لعبة الشطرنج الجارية حالياً، إلا أنها لا تفهم لماذا يزعجها مسعود البارزاني باستمرار من خلال تصريحاته"الاستفزازية"، وهو الذي يعرف أن الولاياتالمتحدة الموجودة الآن بقواتها المسلحة على أرض العراق لن تكون موجودة دائماً. وكان أردوغان عبَّر عن أسفه لتصريحات البارزاني الذي تحدث عن حق الأكراد في المنطقة في دولة مستقلة، وقال ان تركيا"حمت الأكراد عندما تعرضوا لظلم صدام حسين وقدمت لهم كل الدعم والمساعدة ومنحت قياداتهم جوازات سفر ديبلوماسية تركية". وكرر رغبة الحكومة في الحوار مع القيادات الكردية العراقيةوبغداد لبحث مجمل القضايا والمشكلات التي تهم الطرفين، موضحاً أن القول الفصل في هذا الموضوع هو للحكومة وليس للجيش. واستنكر أردوغان تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس التي سمّت شمال العراق"كردستان"وقالت انها الدولة المجاورة لتركيا من الجنوب، مؤكداً أن"العراق هو الدولة المجاورة وتركيا تعترف بحكومة بغداد فقط". وإذ استغرب مثل هذه التسميات قال ان حكومته لا توليها أي أهمية طالما أن الوضع في العراق على ما هو عليه حيث يموت يومياً نحو 100 عراقي. معتبراً أن سورية وتركيا وإيران هي الدول المعنية في الدرجة الأولى بتطورات العراق، متحدثاً عن استمرار الاتصالات لجمع وزراء خارجية دول الجوار العراقي مع وزراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن في اسطنبول بداية نيسان ابريل المقبل. 2 - قضية كركوك: يتعرض التركمان منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن الى مشكلات ومظالم لا تقل عما تعرض اليه معظم أطياف المجتمع العراقي. وإذا كان سكن التركمان يمتد من تلعفر والموصل في الشمال وصولاً الى مندلي وغيرها في الجنوب الأقصى، إلا أن كركوك تبقى خطاً أحمر تركياً ثانياً إذا استمر أكراد العراق في المطالبة بضم هذه المدينة، التي أكد البارزاني"تمسك الأكراد بهويتها"، مهدداً القوات التركية بأن"البشمركة لن تستقبل القوات التركية بالورود في حال تجاوزت حدودنا". غير أن الجانب التركي لم يتأخر كثيراً في الرد على تصريح البارزاني، فقد رأى وزير الخارجية التركي عبدالله غل ان"القيادة غير العقلانية غالباً ما تقحم رأس شعبها في الكوارث". والمعضلة الرئيسة التي قد تجابه تركيا في هذا الشأن، تكمن في أن مدينة كركوك - الهدف الاستراتيجي الأهم في هذا المعنى - تبعد عن خط الحدود العراقية - التركية حوالى 300 كلم، ويجتاز المحور المؤدي اليها، انطلاقاً من زاخو - إبراهيم الخليل بقاعاً كردية لا يشكل التركمان فيها إلا أقلية ملحوظة، حيث يصعب توفير استقرار التشكيلات العسكرية التركية التي قد تتمركز في كركوك في حال قررت القيام بعمليات عسكرية، فضلاً عن المقاومة المسلحة الكردية المتوقعة ضدها كما أشار الى ذلك البارزاني، واحتمالات المجابهة مع القوات الأميركية المحتلة للعراق الموجودة في قواعدها الشمالية. وهكذا، فإن مسألة كركوك والمناطق العراقية المختلطة في شمال العراق هي مسألة منفصلة ولكنها متداخلة ضمنياً إذ تعكس صراعاً بين جماعات كردية عربية وتركمانية وكلدو - أشورية منذ اكتشاف النفط في عشرينات القرن الماضي وهي صراعات تنطلق جزئياً من حقوق"تاريخية"ولكن معظمها يدور حول النفط. 3 - أنبوب النفط كركوك - حيفا: تستشعر الحكومة التركية بأن إعادة فتح هذا الخط المتوقف عن العمل منذ 56 سنة، واستعداد الإدارة الأميركية لإعادة الحرارة اليه، سيزيد الضغط على تركيا، وهو ما أكدته صحيفة"جمهورييت"التركية التي أشارت الى أن الخط سيقوم بعد إصلاحه بنقل نحو 42 في المئة من انتاج نفط كركوك والموصل الى اسرائيل، ورأت أن هذه الخطوة إذا تمت ستلحق ضرراً بتركيا، خصوصاً أن إصلاح خط"الموصل - كركوك - حيفا"، سيحوّل إسرائيل الى مركز لتوزيع النفط في المنطقة، ومنافس أساسي لتركيا في هذا الخصوص، حيث يشكل أنبوب النفط العراقي - التركي الممتد من حقول كركوك وصولاً الى زاخو ثم عبر الأراضي التركية حتى ميناء جيهان المطل على البحر المتوسط - موقعاً استراتيجياً خصوصاً من الناحية الاقتصادية، لأن هذا الأنبوب يؤمن لتركيا منفعتين أساسيتين، أولاهما رسوم الترانزيت التي بلغت خلال نهاية الحرب العراقية - الإيرانية 287 مليون دولار. وثانيتهما ضمان الحصول على نفط خام للاستخدام الداخلي بأرخص الأثمان، يضاف إليهما حاجة العراق الدائمة لإيصال نفطه الى المتوسط في شكل مضمون. غير أن الموقف الاستراتيجي اختلف منذ 2003، وتأمن للعراق تصدير نفطه من طريق موانئه على الخليج العربي، وإمكان إيصاله الى البحر المتوسط عبر سورية بعدما بدأت الإدارة الكردية في توسيع البوابة الحدودية السورية. لا شك في أن تركيا تدرك أن من أهم الآثار التي ترتبت عليها من جراء الاحتلال الأميركي للعراق كان الخفض النسبي لقيمتها الاستراتيجية العسكرية العليا وتحوّل الأكراد الى حلفاء أساسيين للقوات الأميركية بعدما أمسى الاحتلال أمراً واقعاً منذ منتصف عام 2003 وله حدوده مع الأراضي التركية. * كاتب سوري.