بدخولنا القرن الحادي والعشرين , هذا القرن الذي يوصف بأنه قرن السرعة والعصرنة والانفتاح على الآخر المختلف عنا كلياً , لا يزال تيار واسع من أنصار الحركة القومية العربية يتشبث بمعطيات الأمس البعيد , رغم الهزائم والإخفاقات المتكررة التي مني بها تيار الحركة في ستينيات القرن الماضي , الإخفاق الأكبر تجلى بالفشل في تحقيق المشروع النهضوي المتمثل بالوحدة , الذي جسدته الحركة في أدبياتها , وذلك بدءاً من الأفراد والجماعات وصولاً إلى الأحزاب السياسية التي دارت وبقيت تدور حتى الآن في فلكها, ما أعطى الحركة الحافز القوي لتبني أطروحة الدولة القطرية بشكل حتمي , لصد هياكل المجتمع المدني الخارجة عن جملة الإخفاقات , والمتماشية مع شروط الحاضر وآفاقه المستقبلية , فالقطرية هي الفعل العكسي المباشر لهذا المجتمع المتشكل حديثاً, ونتيجة ذلك تمكنت القطرية من سحق بناه ودعائمه التقليدية المتمثلة بالديموقراطية وحقوق الإنسان . بالرغم أن بذور اليقظة العربية بزغت شمسها من عقول رجالات الفكر القومي , فلم يكتب لها النجاح بسبب تعارضها مع تعاليم السلطة الدينية التي حكم بها سلاطين الإمبراطورية العثمانية آنذاك, ووأدها لأي معطى فكري جديد لا يتواءم مع طبيعة حكمها السائد , المتجه نحو تتريك الدول الخاضعة , ومع ذلك استمر هذا الخيط الرفيع من الفكر النهضوي المستمد من واقع الفكر الليبرالي الغربي خلال القرن التاسع عشر . مع بداية القرن العشرين أصبح هذا الفكر الأصيل يتيماً , بعد أن قضى رجالاته الأوائل نحبهم , ولأنّ الأجيال التي أعقبت رحيلهم فشلت في احتضان نتاجهم الفكري , بل عملت على وضعه في الاتجاه المعاكس للمسار التاريخي , وسارت به حسب ما أملته النزوات الشخصية , وأرضعته من واقع إيديولوجيتها المحلية القائمة على تقاليد العائلة والطائفة والعشيرة , بحيث جعلت منه حركة قومية متنافرة مع ذاتها والمحيط , تجمع وتفصل بين عروبتها الانتمائية وإسلامها , حسب الظروف التي تمر بها . إنّ الخلط بين الديني المستخرج من رحم الماضي , والعلماني المستحضر من حاضر الغرب , بلور مفهوم القطرية التي ظهرت بعيد الحرب العالمية الثانية كشرط أساسي لزم عن عملية تقسيم الجغرافيا العربية إلى مجموعة كيانات سياسية هجينة, استخدمت ما تبقى من الفكر القومي في معركة استحواذ السلطة والاستئثار بها, إثر رحيل المستعمر الأجنبي , المطب الأول الذي وقعت به هذه الكيانات العربية أنها تناست أصول الفكر الأولى , المبنية على قيام الدولة القومية الديموقراطية , ذات الطبيعة البرجوازية كما هو عليه الحال في أوروبا الرأسمالية بعد انطلاق الثورة الصناعية . فالجمع بين السلطة وفكرة القومية , نتج عنه أيديولوجيا حركية , ناقضت نفسها كما ناقضت خصمها اللدود الحركات الإسلامية من ناحية عدائها المستفحل للمطامع والمشاريع التوسعية الغربية , واعتبارها الغرب الخلفية التي تستمد منها علمانيتها وحداثتها من ناحية أخرى . لطالما أحاطت الحركة القومية نفسها بغطاء أيديولوجي تقليدي ماضوي , فإن الدولة القومية التي أرادت لها أن تبصر النور , لم تبصره على حقيقة واقعها المتدهور سياسياً واقتصادياً , إنما أبصرته وفق رؤية أيديولوجية راهنة على حداثتها , من هنا يتضح تقهقر أغلب الحركات القومية في تحديث دويلاتها القطرية , لتجاهلها عنصري الديموقراطية والحداثة السياسية بالمفهوم الغربي الصرف , المنضوي على المواطنة في المقام الأول إلى جانب الإقرار بحرية الفرد ومشاركته في بناء المؤسسات الدستورية التمثيلية , التحديث الذي حرصت الدول القطرية على إدخاله , هو التكريس لواقع بيروقراطية الدولة , فاسحةً بذلك المجال أمام تسلطها واستعلاءها القطري , برفضيتها المطلقة للجدل والنقاش . وترافق مع هذا التسلط , احتكار القطرية لصياغة العملية السياسية وطرائق إنتاجها , الأمر الذي أحدث شرخاً هائلاً , أدى إلى انفصال الدولة عن المجتمع , ترتب عنه اشتداد ساعد حركات الإسلام السياسي , ورفضها التام لمبدأ التسلط , ومن ثم الدخول معها في صدامات مفتوحة إلى ما لا نهاية . * كاتب سوري