توقيع الأممالمتحدة على معاهدة انشاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في اغتيالات سياسية في لبنان، له تأثير مباشر على محادثات اقليمية كتلك الجارية مع ايران وعلى علاقات ثنائية تشمل علاقة روسياوايران بسورية و "حزب الله". هذه المعاهدة قيد الإبرام أطلقت مرحلة جديدة في مستقبل المحكمة، إذ أنها قيدت جميع اللاعبين، المحليين والاقليميين والدوليين، في أحد الخيارين التاليين: إما هذه المحكمة ذات الطابع الدولي التي جاءت حصيلة مفاوضات مفصلة بين الأممالمتحدة والأجهزة القانونية الرسمية في الدولة اللبنانية، أو محكمة دولية تُفرض بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. هذا تطور يجعل حكومات مثل الحكومة الايرانية تفكر ملياً بمواقفها من الرفض السوري القاطع للمحكمة الذي بات في صدارة الأولويات السورية ويحتل مرتبة أعلى من استعادة الجولان الذي تحتله اسرائيل، ليجعلها تراجع حسابات وأخطاء حلفائها داخل لبنان لتقرر إذا كانت معارضة"حزب الله"للمحكمة تستحق دعم طهران حتى وإن أدت الى توسع الصراع المذهبي وإشعال فتنة مذهبية في لبنان. وهذا التطور يؤخذ على محمل الجد من قبل الذين يعدون لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى المملكة العربية السعودية، فلقد تداخلت المحكمة في المحادثات المهمة التي يجريها المسؤولون السعوديون والايرانيون وسط سرية حرصاً على ان تؤدي الى نتائج ايجابية وتتطرق الى دور ايران في لبنان وفلسطين والعراق لاستكشاف امكان التفاهم والعمل معاً بدلاً من شرذمة المنطقة في حروب مذهبية. فلقد عبر قطار المحكمة محطة مصيرية، وجميع من حاول ايقافها يدرك الآن ان لا عودة لهذا القطار الى محطة الصفقات والمساومات الوهمية. أفضل ما يمكن لرئيس مجلس النواب نبيه بري، ان يفعله الآن هو ان يخرج مفاتيح البرلمان من جيبه ويوافق على عقد جلسة تصويت على إبرام المعاهدة. فهناك عريضة ل70 نائباً تطالب بري بهذه الجلسة وهو يرفض فتح أبواب البرلمان بصورة تسيء حقاً الى لبنان أولاً والى سمعته هو شخصياً أيضاً. حتى المبررات والذرائع التي يرفعها بري تسيء اليه لأن لها نكهة سورية. الأممالمتحدة أوضحت تماماً ان لا مجال لفك الارتباط بين الاغتيالات أو لحذف البند المعني بمسؤولية الرئيس عن المرؤوس في النظام الاساسي للمحكمة، لأن هذه احكام"كلاسيكية"وهي"راسخة جداً"في النظام الأساسي للمحكمة، حسب قول مسؤول رفيع المستوى. أوضح هذا المسؤول ان الأممالمتحدة مستعدة ل"شرح"جميع"الاجراءات الوقائية"التي تحول دون تحويل المحكمة الى أداة سياسية كي"تساعد"وساطة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، بين الأطراف اللبنانية، انما هذا لا يعني اعادة فتح النظام الأساسي للمساومات وللتعديلات سوى إذا قدمت الأطراف المعارضة"الحجج والطروحات الصارمة التي تبين لماذا يجب لهذه الأحكام ألا تبقى". فإذا كان لدى دمشق مثل هذه الطروحات والحجج الصارمة التي تبين لماذا يجب حذف بند مسؤولية الرئيس عن المرؤوس الذي ارتكب هذه الاعمال الارهابية، عيها أن تتقدم بها الى الأممالمتحدة مباشرة بدلاً من تكليف هذا الطرف أو ذاك بالمهمة الغريبة. أما القول ان المحكمة مقبولة طالما انها ليست مسيسة فإنها مزاعم فارغة رد عليها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية، نيكولا ميشال، بقوله"لسنا مستعدين، بأي شكل كان، ان نساهم في انشاء محكمة تكون أداة سياسية تستخدم ضد اي طرف كان". كذلك، لفت مسؤول رفيع في الأمانة العامة الى ان"مجلس الأمن الدولي ما كان اعطى الضوء الأخضر للاتفاقية والنظام الاساسي للمحكمة لو اعتقد ان المحكمة هي أداة سياسية". روسيا تتخذ في كثير من الأحيان مواقف متعاطفة مع دمشق وتحاول تكراراً طرح المواقف السورية في مداولات مجلس الأمن في شأن لبنان. انما روسيا تبقى طرفاً في التصديق على معاهدة انشاء المحكمة ذات الطابع الدولي. ذلك ان مجلس الأمن الدولي صادق على الاتفاقية والنظام الاساسي للمحكمة بالإجماع، قبل توقيع الحكومة اللبنانيةوالأممالمتحدة عليها. إضافة الى ذلك، ان روسياوالصين جزء لا يتجزأ من قرار مجلس الأمن الذي أقر انشاء محكمة لمحاكمة الضالعين في اغتيال الحريري ورفاقه وفي القرارات الاخرى التي ربطت بين بعض الاغتيالات ومحاولات الاغتيال ال14 التي وقعت حتى الآن. وما المعاهدة القابعة في انتظار إبرام مجلس النواب إلا تنفيذ لما أقره مجلس الأمن في قراراته. إذن، مهما جاملت موسكودمشق ومهما كان في ودها ايقاف إقلاع قطار المحكمة من المحطة، فهي غير قادرة على ذلك، لأنها جزء من القرار الدولي ولأن موسكو لن تسمح لنفسها ان تبدو وكأنها تحمي الضالعين في جرائم صنفها مجلس الأمن بأنها"ارهابية"من المحاكمة والاستحقاق. فإذا ظن الآملون بإجهاض المحكمة ذات الطابع الدولي، إما بألاعيب إقفال باب البرلمان لمنع ابرام المعاهدة أو عبر اغتيالات سياسية إضافية، أن روسيا ستمارس حق النقض الفيتو على قرار يفرض انشاء محكمة دولية، فإن ظنهم خاطئ وحساباتهم أكثر خطأ. روسيا لن تضحي بشراكتها مع الولاياتالمتحدة ومع الاسرة الدولية في محاربة الارهاب لأن الشيشان في الميزان، وبالتالي، فإنها لن تستخدم الفيتو على قرار بموجب الفصل السابع يفرض انشاء محكمة يصب فيها التحقيق الدولي الذي أطلقه مجلس الأمن الدولي، لمعرفة هوية الذين أصدروا الأوامر والذين تواطأوا والذين غطوا على العمليات الارهابية في لبنان. فموسكو تفهم تماماً ماذا يعني استخدامها الفيتو... ولن تفعل. كذلك الصين، فإنها ليست أبداً في وارد التضحية بهدفها الاستراتيجي لتصحيح الانطباع العالمي عنها واكتساب سمعة جديدة قبيل استضافتها التاريخية للألعاب الأولمبية. وبالتالي، فإن الصين أبعد ما تكون عن استخدام فيتو ضد انشاء محكمة دولية. حتى ايران لن تتمكن من الظهور وكأنها تبتز الأسرة الدولية وتحمي أياً كان من المحاسبة على اغتيال رئيس حكومة برفضها المحاكمة بغض النظر عن اللغط اللغوي الاستهلاكي حول تسييس المحكمة. فإذا كان لدى طهران"طروحات صارمة"تبين لماذا ترى في النظام الاساسي للمحكمة تسييساً، لتتفضل به. ولن تفعل. فإيران تدرك ان هذا منحدر خطير وهي شديدة الحرص على أولوياتها في الساحة الدولية. ولذلك، أمام دمشق وحلفائها خياران فقط: إما التوقف عن تعطيل المحكمة ذات الطابع الدولي او الرضوخ رغماً عنهم تحت سلطة الفصل السابع الملزم من ميثاق الأممالمتحدة عند انشاء المحكمة الدولية. فإذا اختارت الخيار الأول وأرفقته ببدء المحاسبة الذاتية داخل الحدود السورية وبالإقدام السريع على تنفيذ قرارات مجلس الأمن لإثبات قبولها بترسيم الحدود فوراً مع لبنان وإقامة العلاقات الديبلوماسية الرسمية بين البلدين ومنع عبور الاسلحة عبر حدودها الى الميليشيات اللبنانية والفلسطينية والكف عن تقويض سيادة الدولة اللبنانية، قد يكون ذلك لدمشق السبيل الوحيد للخروج من الزاوية التي حشرت نفسها فيها. كذلك الأمر في ما يتعلق ب"حزب الله"، إن اخراج نفسه من الزاوية ممكن فقط بالانقلاب على نفسه وعلى مواقفه كاملة، بمبادرة منه تلقى الترحيب الشعبي تشمل مبادرته الى وضع أسلحته تحت تصرف الجيش اللبناني. فلقد اقترب زمن استغناء طهران عن دمشق واقترب موعد إعادة فرز علاقة ايران ب"حزب الله". فإذا كانت طهران حقاً صادقة في رغباتها بفتح صفحة تفاهم وتعاون تحول دون الانزلاق في حروب مذهبية تهددها وتكلفها غالياً في نهاية المطاف، لا مجال أمامها سوى إعادة صوغ علاقتها بدمشق. هذا يستدعي ابلاغ طهرانلدمشق ان"الحلف الاستراتيجي"بينهما لا يعني قيام طهران بتوفير الغطاء والحماية من المحاكمة على اغتيالات سياسية ارهابية لأن في ذلك الغطاء إدانة لايران وفي تلك الحماية ثمناً باهظاً لن يتحمله حكام طهران. يستدعي منها دفع القيادة السورية الى الكف عن التصور بأنها تمتلك أوراقاً اقليمية وتستمر في الرهان على علاقة عضوية مع القيادة الايرانية ضد التيار العربي كعربة الى خلاصها من المحاسبة. فإيران تحت المجهر. والمؤسسة الحاكمة في طهران تدرك ان الحديث الجاري مع المملكة العربية السعودية هو وسيلة لها للخروج من الزاوية. فإذا اختارت عكس ذلك، تكون اختارت المواجهة ليس فقط مع الجيرة العربية وانما ايضاً مع الجيرة التركية ومع الولاياتالمتحدة والأسرة الدولية، كل لأسباب معينة وخاصة به. واقع الأمر ان ايران غير قادرة على مثل هذه المواجهة لأن العبء ضخم عليها، على رغم استراتيجية شد العضلات. فلا هي في وضع اقتصادي يمكنها من مثل هذه المواجهة ولا النظام في ايران بذلك القدر من الإلهام والحرية والديموقراطية لشعبه بما يمكنه من الخوض في مغامرات الهيمنة خارج حدوده. هذا ليس تقييماً عابراً وانما هو مبني على دراسات وأرقام. وكما قال أحد مهندسي السياسة الخارجية التركية، لا خوف لدى تركيا من تحول ايران الى قوة اقليمية قادرة على الهيمنة لأن مقومات مثل هذه القوة غير متوافرة لدى الجمهورية الاسلامية الايرانية التي فشلت حتى الآن في ان تصبح مصدر إلهام، بل ان شعبها يندم على حظه ويتعطش الى الحرية ويغار من الديموقراطية في تركيا. ما يحدث في المنطقة الآن هو عبارة عن ترغيب لايران بإعادة النظر في سياساتها نحو لبنان وفلسطين والعراق. وما اتفقت عليه الأسرة الدولية في مجلس الأمن الدولي هو اعطاء ايران مفتاح باب الرجوع عن التصعيد والمواجهة، حيث تقف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وراء الباب متأبطة ملفات المكافأة، حالما تعلن طهران استعدادها تعليق تخصيب اليورانيوم كمؤشر على حسن نية برامجها النووية. الكرة في الملعب الايراني، في ما يخص الملفات الاقليمية والنووية على السواء. انما الدعوة ليست مفتوحة الافق والزمان، والمسألة ليست محصورة في علاقة طهران بسورية ولبنان، فنجاح الرعاية السعودية للمصالحة الفلسطينية يعتمد كثيراً على القرار السياسي الاستراتيجي لايران وعلى صدق النيات الايرانية نحو القضية الفلسطينية بدلاً من استغلالها لحسابات امتلاك الأوراق من أجل التخريب أو الهيمنة، وما تقرره طهران في شأن لبنان وفلسطين له علاقة وأثر مباشر على ما تريده في العراق وفي جيرتها الخليجية. "حزب الله"في انتظار القرار الآتي من طهران ليتصرف على اساسه في لبنان، وقد يكون ذلك القرار في منتهى الايجابية ويأتي بمفاجأة تستحق الترحيب والاحتضان والامتنان. أما إذا ارتأت القيادة الايرانية ان مصلحتها تقتضي اطلاق الحروب المذهبية في اكثر من دولة عربية، بدءاً بلبنان حتى ولو أدى ذلك الى حرقه وتدميره. إذا قررت ان الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني فرصة لها لتأجيج حرب أهلية بين الفلسطينيين وسحب القضية الفلسطينية من الحضن العربي لغايات الهيمنة الايرانية. إذا اختارت تحصين حلفاء لها من اي محاكمة حتى وان كانوا ضالعين في اغتيالات ارهابية، عندئذ يكون النظام الايراني اختار طريقه الى المحاكمة على أيادي شعبه وبيئته الاقليمية والاسرة الدولية.