من المفارقات الدالة أن ميشيل بوتور ظل يقاوم ارتباطه بالرواية الجديدة، ولكنه اقترن بها على رغم المقاومة. وكانت تجريبيته أساس الاقتران، وتوافق روايته مع المبادئ الأساسية للرواية الجديدة، خصوصاً روايته الشهيرة "التحول" Modication المكتوبة كلها بضمير المخاطب من ناحية، ومزجها بين الواقع والوهم من ناحية ثانية، فضلاً عن الالتباس المبنية عليه من ناحية أخيرة. وقد كتب بوتور هذه الرواية من المنظور الذي يؤكد التحول والتغير، وينقض الثبات والبقاء على حال إدراكي واحد، فبطلها يسافر إلى روما بعد أن قرر استئناف حياته مع عشيقته التي تنتظره. وفي الليل، وهو جالس في القطار، يقوم بعمليتين ذهنيتين في وقت واحد، منفصلاً فيهما عن حياته الماضية، محاولاً التنبؤ بحياته الآتية. وبمرور الوقت تتضاءل أهمية تنفيذ القرار الذي كان قد اتخذه، إذ يدرك في الصباح أنه لم يحب عشيقته، وأنه أحب كائناً غريباً عليه تماماً، كالمدينة التي تسكنها هذه العشيقة. لقد أحب أحداثاً في هذه المدنية. ولذلك فإن قيمة مَنْ يذهب إليها تفقد معناها لو أكمل تنفيذ القرار الذي اتخذه. ولا تنفصل عن ذلك المستويات الدلالية الموازية للرواية، حيث يشير ضمير المخاطب الجمع، إيحاء، بالتحول الذي لا يخلو من سؤال ميتافيزيقى معلق، مطروح على البطل والقارئ في آنٍ:"من أين تأتي؟ وماذا تريد؟ وإلى أين تذهب؟"وهو سؤال يتناسب وطبيعة الرواية التي تقوم على قصة داخل قصة، ومن خلال ضمير المخاطب - المفرد بصيغة الجمع - للبطل الذي يخاطب نفسه خلال رحلة القطار، قبل أن ينتهي إلى أنه لن يترك زوجه من أجل عشيقته، وهو الانقلاب الكلي على البداية، أو التعديل الكامل لها، أو العدول عنها، مع تغير التداعيات والتساؤلات التي لا تتوقف عن التولّد من خلال تداعيات ضمير الخطاب الذي يبدو كأنه إيانا وكأننا إياه. ولا تتباعد رواية"التحول"أو"العدول"إذا شئنا الدقة عن رواية"عمل الزمن"التي يحاول بطلها، جاك ريفيل، العثور على معنى في شوارع وبنايات مدينة غريبة، تدفعه إلى الشعور بأنه سجين وسط ظلمة كثيفة. وكان قد جاء الى العمل في مدينة إنكليزية تدعى بليستون، يهيم فيها بلا هدف، متوحداً، عبر صفوف المنازل ومواقف الأتوبيس الذي يركبه، تاركاً المبنى الذي خلفه منذ نصف ساعة، لا يغادره الشعور بأن حظه السيئ يرجع إلى إرادة حاقدة، وأن كل ما يراه ليس سوى أكاذيب، وعليه محاربة انطباعه المتزايد بأن كل جهوده محكوم عليها بالفشل، سلفاً، وأنه يدور بلا توقف حول حائط صلد، أبوابه مضللة، والناس زائفون، وكل شيء ليس سوى خدعة. ويصف النقاد هذه الرواية، إضافة إلى تجريبيتها ومزجها الواقعي بالوهمي، بأنها تضع إدراك القارئ للعالم موضع المساءلة، مؤكدة معنى التحول في فعل الإدراك وفي المدركات نفسها. وقد كان رولان بارت 1915-1980 - أشهر نقاد البنيوية وأوسعهم تأثيراً - معجباً بأعمال بوتور لما فيها من سيمتريات صارمة، دفعه إلى اعتبار رواياته مثالاً إبداعياً للبنيوية، على نحو ما تتجسد، مثلاً، في روايته"المرور على ميلانو"، أو"عمل الزمن"التي تتشكل في بنية ثابتة التدرج كالتقويم. ولم يغفل بارت عن الخاصية الكتابية لأعمال بوتور الإبداعية التي تتميز بنثر شعري، تجعل حساسيته الكتابية أقرب إلى بودلير منه إلى آلان روب - غرييه. ومن الأمانة القول إنني أخذت معلوماتي الأولى عن بوتور من التذييل الذي ألحقه المترجم لكتاب آلان روب - غرييه عنه، وأضفت إليها ما تراكم عندي عبر الزمن الذي مضى منذ ترجمة كتاب روب - غرييه. هكذا، عرفت أن بوتور ولد في مون- آن - بارويل في الشمال الفرنسي في الرابع عشر من أيلول سبتمبر 1962، وحصل على إجازة ودبلوم في الدراسات الفلسفية العليا، وعمل بالتدريس في إنكلترا ومصر والولاياتالمتحدة. وكان نشر - في ذلك الزمان - أربع روايات، هي:"المرور على ميلانو"1954، وپ"عمل الزمن"1956 التي ترجمت إلى الإنكليزية بعنوان"مرور الزمن"وپ"التحول"1957 التي حصلت على جائزة رونودو 1957، وترجمت إلى الإنكليزية بعنوان"أفكار ثانية"، وپ"درجات"1960، ونشر محاولات نقدية عدة منها"عبقرية المكان"1958. ومضى بوتور في طريقه بعد ذلك، لكن أخذه النقد من الإبداع، وشغلته كتابة المقالات والدراسات التي تنوعت تنوعاً موسوعياً، ابتداء من"تاريخ استثنائي: مقالات عن بودلير"1961 وانتهاء بكتابيه"ارتجالات ميشيل بوتور: الكتابة عن التحول"وپ"ثلاثية على شرف غوغان"2000. غير أن هذا التنوع لم يفارق عوالم الفن بوجه عام، سواء في تنقله ما بين الرواية ونقد الفنون، خصوصاً الرسم والموسيقى، فضلاً عن أدب الرحلات التي لا يزال على حبه لها، بصفتها اكتشافات مستمرة للعالم الذي يظل في حاجة إلى الكشف. وقد أغواه الشعر فكتبه، بعد أن انتهى إلى أن الرواية استنفدت وهجها السردي داخله وحلّ محله الوهج الشعري، فكتب الكثير من القصائد، مبرراً ذلك بأن الشعر صار أقدر على صياغة إدراكه المتغير عن العالم. كانت الأفكار السابقة تتداعى على ذهني، وأنا في انتظار ميشيل بوتور، في مكتبي للتحية، قبل أن ندخل إلى قاعة الندوات، وينتج أفقاً من النقاش الحر مع العارفين بأدبه ومكانته في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. وكنت قد أعددت نفسي للقاء بمراجعة كتاب آلان روب - غرييه الذي كان مدخلي الأول إلى معرفة تيار"الرواية الجديدة". وحاولت قراءة ما هو متاح عنه على شبكة الإنترنت التي أضافت موادها الكثير إلى معلوماتي، فلم أكن أعرف أنه انشغل بالكشف عن العلاقة النصية الداخلية التي تصل ما بين أنساق الفنون، مثل الموسيقى والرسم، والخطاب الأدبي، وأنه ظل يرفض العوامل التاريخية والبيوغرافية الخاصة بالسير الشخصية للكُتَّاب بصفتها عوامل حاسمة في فهم الرواية، وأنه اهتم بالموازاة بين الأدب والفنون البصرية، وأشار - في ثنايا ذلك - إلى مونتاني الذي لاحظ الموازاة بين مقالاته وتكوين رسم الباروك الذي يركز على تباين الخواص الغروتسكية، وأنه اهتم - فضلاً عن ذلك - بدراسة الرواية البوليسية، ولم يتوقف عن التأليف والإبداع الذي أهّله لأكثر من جائزة، آخرها جائزة النقد الأدبي سنة 1960، وأن كتباً عدة تم تأليفها عنه. وأخيراً، أطلّ ميشيل بوتور، شيخاً باسم الوجه، جاوز الثمانين من عمره، رحبت به بالإنكليزية التي يعرفها جيداً، وظللنا نتبادل عبارات المجاملة، وعرفت منه أن هذه ليست زيارته الأولى لمصر، فعهده بها قديم. وقد أفاض في ذلك في حديثه عن نفسه، داخل اللقاء الذي كان ممتعاً ثرياً. والحق أنني كنت نسيت أنه عمل في مدرسة الليسيه في مدينة المنيا في صعيد مصر ما بين عامي 1905- 1951، ولم يبخل علينا الرجل بذكرياته عن المنيا التي لم تكن قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور بعد، وأطرف ما حكاه أنه لم يمتلك مكتباً خاصاً به، يكتب عليه أعماله، وأنه ذهب إلى نجار، ورسم له مخطط منضدة للكتابة التي لم يتوقف عن ممارستها، واستطرد إلى ذكرياته الكثيرة في المنيا، وذلك بعد مرور ما يزيد على نصف قرن من عمله فيها. وكان ذلك قبل أن ينتقل إلى التدريس في جامعة مانشستر في إنكلترا 1951 - 1953 ثم إلى سالونيكا 1954-1955 وجنيف 1956 - 1957. وانتهى به العمل الجامعي إلى أن يكون أستاذاً زائراً لتدريس الأدب الفرنسي في جامعات الولاياتالمتحدة، متردداً ما بين جامعاتها وجامعة جنيف التي عينته أستاذاً متميزاً، وكان ذلك قبل أن يستقر به المقام محرراً في دار نشر غاليمار الشهيرة، وقبل أن تبتعد الأضواء تدريجاً عنه، فالرواية الجديدة التي كان من أعلامها لم تعد جديدة، وطرائق السرد التي رادها تعدلت بفعل الزمن، وأصبحت طرائق مغايرة، والروائي الذي كان داخله ترك مكانه للشعر، وتغلب على المبدع فيه الناقد والدارس والأستاذ الجامعي. ولذلك لم أندهش من سؤال صديقنا محمد أركون وتعليقه، وكان حاضراً اللقاء، عن سر ابتعاد بوتور عن بؤرة الضوء، وأنه لا ينال حقه من التكريم في فرنسا. ولم تخل إجابة بوتور من سمات التواضع التي جذبتنى إلى شخصيته السمحة، خصوصاً حين ألمح إلى السنوات الكثيرة التي قضاها خارج فرنسا. وكان يمكن أن يضيف تقلّب الأذواق وتغيرها، خصوصاً بعد ثورة الطلاب الفرنسية سنة 1968 التي أطاحت بالبنيوية، واستهلت أزمنة جديدة من الكتابة التي تراكمت بما أبعد الضوء عن الرواية الجديدة، على الأقل في صيغها الأولى، وعن مسرح العبث وكتاباته التي لم يبق منها إلا الأصيل الذي يجاوز حدود المذهبية الضيقة. وهذا شأن كل المذاهب والتيارات في الفنون، لا يبقى منها إلا ما يغوص في زمنه النوعي إلى قرارة القرار التي يتجاوب فيها الماضي والحاضر والمستقبل في القاسم الإنساني المشترك الذي يجاوز زمنه المتعين إلى غيره من الأزمنة. ولولا ذلك ما بقيت أعمال جويس وكافكا وبيكيت وغيرهم من أبناء عصرهم وعصرنا وعصور أولادنا وأحفادنا، وقد طافت المناقشات مع بوتور حول موضوعات وقضايا أبدى فيها آراءه التي أضافت إلى ما عرفته عنه من قبل، وذلك من مثل تأكيده أنه يستكشف الفنون بصفتها وحدة واحدة، ويرى ثقافة العالم بوصفها نسيجاً هائلاً، ينطوي على تنوعات لا نهائية، لا تنفي وحدة هذه الثقافة، خصوصاً إذا جاوزنا سطح ذلك النسيج إلى ما يقع تحته من ثراء لا حدّ له، يؤكد وحدة التنوع الخلاّق للثقافة الإنسانية. ولم تخلُ آراؤه من إشارة إلى أميركا، وإلى إعجابه بروائييها العظام من ناحية، وإلى حماسته لبعض أنواع الموسيقى التي أنتجتها، مثل موسيقى الجاز التي يأخذها مأخذ الجد، ويرى فيها إبداعاً جديراً بالاحترام لا التهميش. ولم تفته الإشارة إلى أن كل كاتب يُسهم في الميراث الثقافي للإنسانية، وأن إعادة تفسيره للحكمة الموروثة عن الإنسانية لمصلحة زمنه لا تقل أهمية عن ضرورة إعادة هذا التفسير لمصلحة المستقبل، فالكتابة إعادة اكتشاف للماضي والحاضر، وإرهاص بالمستقبل في الوقت نفسه. وهي - من هذه الزاوية - وسيلة مقاومة الكاتب لكل ما يعوق اكتمال الحياة، أو يحول بين الإنسان والتحديق في ملامح المستقبل المغوي. ولذلك لا يكف الكاتب عن الكتابة لأنه لا يكف عن المقاومة، ساعياً إلى القبض على الملامح المراوغة للأشياء التي يراها بالغة الأهمية والدلالة في العالم الذي لا يكف عن التحول. ومن المنظور نفسه، يمكن وصف الكتابة بأنها فعل تحوّل لا ينقطع أو يتوقف، فعل مفتوح لا ينغلق في دائرة، أو يحتجز في قوالب زمان أو مكان. وكان من الطبيعي أن يبرر بوتور انصرافه عن الرواية إلى الشعر، نافياً انتهاء زمن الرواية، مؤكداً أنه لم يوجد عصر تميز بغزارة إنتاجه الروائي مثل عصرنا، حتى لو كانت الروايات شديدة التميز قليلة، فالكثرة ليست دالة على القيمة في كل الأحوال. ولم تفته الإشارة إلى تميز الرواية الأميركية، في ثنايا حديثة عن إقامته وعمله في الولاياتالمتحدة وجامعاتها.