انتقدت منظمة حقوق الإنسان والحق الإنساني هيومان رايتس ووتش المحكمة العراقيّة التي تولّت محاكمة صدّام حسين ومساعديه في وثيقة تعود إلى تشرين الثاني نوفمبر 2006، وأحصت انتهاكات قضائية مثل ثغرات التحقيق، والتوسّل بأدلة لا سند لها، وانحياز رئيس المحكمة وإهمال أدلة الدفاع وطعونه، وضعف حماية هيئة الدفاع والحؤول بينها وبين إعلان مواقفها على الجمهور. وردّ الحقوقي الأميركي، مايكل شارف، وهو مستشار المحكمة العراقيّة، على ملاحظات المنظمة، فقال إن سندها هو جلسات المحاكمة والتلفّظ بالحكم. وذهب شارف إلى أن حجج المطالعة تهمل المطالعة المكتوبة، وتبلغ 300 صفحة. ويخلص إلى أنّ حجج المطالعة هذه تنقذ المحاكمة. والحق ان الحكم هذا، مهما بلغ من قوة الحجّة وتماسكها، يبطله مشهد المحاكمة، والكلام الذي تبادله المتّهم الأول والقاضي. ولكن لماذا أرادت الإدارة الأميركية، والحكومة العراقيّة، المحكمة والمحاكمة على هذه الصورة؟ لا ريب في أنهما أرادتا محاكمة"محلية". وهما اختارتا من بين ما لا يحصى من القضايا والفظائع التي يتحمّل نظام صدّام حسين التبعة عنها طوال عقود عهده، قضية سهلة المنال نسبياً. فاقتصرت الملاحقة القضائيّة على القمع الذي أعقب محاولة اغتيال صدّام حسين في قرية الدجيل. فيومها عقدت محاكمة صورية اقتصرت تحقيقاتها على انتزاع الاعترافات بواسطة التعذيب، وانتهت باعدام 143 رجلاً وفتى، وتشريد عوائلهم من غير معيل. ويعود اختيار هذه القضية، من بعض وجوهه، إلى تجرّدها من ملابسات ديبلوماسية محتملة، على خلاف عملية الأنفال، وهي أشد وطأة، وخسائرها أعظم. ولكن العملية كانت ذريعة سهلة يتذرّع بها الدفاع إلى تناول مساندة الدول الغربية حرب صدّام حسين ضدّ إيران. وتوقّع منظمو المحاكمة ألاّ تدوم فوق الشهرين. وهي دامت سنة كاملة جراء رفعها وإرجائها المرّة بعد المرّة. وتأكيد الحكم في الاستئناف على وجه السرعة، أجاز وصف المحاكمة بالتسرّع. وعلى هذا، تعثر اختيار القضية الواضحة والمحلية بالظروف الأمنية والسياسية، من وجه، وبضعف تجربة القضاة العراقيين، من وجه آخر. فاغتيال ثلاثة محامين من هيئة الدفاع ألقى بظلّ ثقيل على المحاكمة كلها، وروّع الشهود على وجه التخصيص. ومن 29 شاهداً من شهود الاتهام، أدلى 23 بشهاداتهم مستترين. ولم تدوّن شهاداتهم كتابة إلاّ قبيل عقد الجلسات. فلم يتح للدفاع قراءتها، والاطلاع عليها، قبل الجلسة. وفاقم عزلة المحكمة وتخندقها في المنطقة الخضراء ببغداد، الإحجام عن إعلام الجمهور بوقائع الجلسات، على خلاف إجراء محكمة الجزاء الدوليّة أو محكمة سيراليون المختلطة. وعمد صدّام حسين إلى توسّل المحكمة منبراً خطابياً، التنديد ب"المحتلين"الأميركيين و"عملائهم الخونة". فدعا الحكومة إلى التخلص منه. ولعل إعدامه المستعجل جواب عن شبهة الحرب الأهليّة الذي تغرق البلاد فيه تدريجاً. وبدا جلياً ضعف الاحتراف على القضاة والمدّعين العامين. فلم يقاوموا تدخّل الحكومة، ولا مراقبة لجنة اجتثاث البعث. ولجأ محامو الدفاع إلى أسوأ خطط الدفوع وهي مقاطعة الجلسات، وتسييس المناقشات، واستدراج شهادات ملفقة. فلم يستفيدوا من ثغرات مطالعة الاتهام الكثيرة. فبعض الوثائق غير مصدّق تصديقاً موثوقاً. وحقيقة، الجريمة لا يرقى إليها الشك، ولكن دور صدّام حسين وأعوانه المتهمين لم يثبت على نحو يقطع الشك بيقين قوي. ولم يثبت على نحو جلي أنّ صدّام حسين وقّع حكم المحكمة الثورية وهو على علم بأن المحاكمة لم تكن إلا مهزلة بائسة. وغلبت على المحاكمة الاستثنائية العراقيّة إجراءات القانون الأوروبي القاري ومثاله الفرنسي، على خلاف محاكم الجزاء الدوليّة وسندها الانغلو - ساكساوني والاجتهادي "كومون لو". وعلى رغم قبول الأميركيين، بعد امتناع، نصوص معاهدة روما التي نظمت عمل محكمة الجزاء الدوليّة، لم يؤد ذلك إلى تقريب العدالة من أفهام العراقيين، وهم لا يثقون، بعد عقود من الديكتاتورية، بالقضاء وعدالته، ويستغلق عليهم مفهوم الجرائم في حق الإنسانية. وعقد المحكمة المحلي، ببغداد، لم يقرّبها من متناول الأهالي. فبقيت بعيدة بعد محكمة لاهاي. واقتصر البث المتلفز على شطر قليل من الجلسات. ولم يضطلع بدور تثقيفي وتعليمي مرتجى. وحرم إعدام صدّام حسين العراقيين من المتهم الأول في المحاكمات التالية التي تنظر في دعوى الإبادة بحلبجة، في 1988. وتسدّد الولاياتالمتحدة ثمن ترجحها، فهي حملت حلفاءها في محاكمات نورنبرغ حملاً على قبول المحاكم الجزائية الدوليّة يوغوسلافيا ورواندا، ولكنها أحجمت عن اجتياز الخطوة الأخيرة. وإقرار محكمة الجزاء الدوليّة. وهذه تقدم القضاء المحلي أو الوطني، ولا تباشر العمل إلا في حال قصور هذا القضاء أو تعذره. ولم تكن شروط المحاكمة العراقيّة قائمة ولا ناجزة. وكان يسع الأميركيين الدعوة إلى إنشاء محاكمة جزائية دوليّة خاصة بالعراق، فالوقائع تعود إلى وقت سبق 2002، تاريخ إقرار المحكمة الدوليّة. والحق انّ محاكمة ميلوشيفيتش مرآة مقلوبة لمحاكمة صدّام حسين. فكانت محاكمة طويلة، وتناولت الحروب اليوغوسلافية كلها، وتحررت من قيود الأرض الاقليمية. عن انطوان غارابون وجويل اوبريشت قاضيان وأستاذا قانون جزائي, "إسبري" الفرنسية، 2 / 2007