نقلت وكالات الأنباء خلال الأيام القليلة الماضية أن الكاتبة الهندية الشابة أرونداتي روي مواليد 1961 في صدد الانتهاء من عملها الروائي الثاني"فهي منذ فازت بجائزة البوكر البريطانية عام 1997 عن روايتها الأولى"إله الأشياء الصغيرة"لم تكتب أي عمل روائي آخر، بل اتجهت إلى كتابة المقالات السجالية، والريبورتاجات الصحافية، التي تدافع عن المهمشين في الهند والعالم، والبيانات التي تنبه الى الأخطار الكبرى التي تهدد الهند والعالم، البيئة المحلية التي طلعت روي منها، والبيئة الكونية التي أصبحت جزءاً منها بفضل كتابتها الروائية أولاً، وسجالاتها التي وضعتها في بؤرة المشهد العالمي، بصورة أساسية. الثيمة الأساسية في"إله الأشياء الصغيرة"1997، التي باعت أكثر من مليون نسخة في طبعاتها الأولى، تدور حول الانقسام الطولي الحاد المروع في بنية الحياة الهندية على مدى العصور، وعدم قدرة الحداثة على رأب هذا الصدع أو تغيير التراتب الاجتماعي في شبه القارة التي تدعي نخبها السياسية أنها من بين دول العالم الثالث التي استطاعت أن تقوم بتحديث بنياتها الاقتصادية والثقافية وتحاول اللحاق بالعالم الأول. لكن أرونداتي روي، ومنذ مساهمتها الأولى في عالم الكتابة، تكشف الجرح العميق الذي تحياه الهند، وتضع يدها على تجاور المتناقضات واجتماع الأضداد: من عصر الفضائيات إلى عدم السماح لطائفة المنبوذين بالزواج من أية طبقة أخرى من طبقات المجتمع الهندي في زمان تدعي فيه الهند أنها جزء من العالم الحديث الذي يساوي بين أفراده بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي أو الاجتماعي! يقوم نسيج الرواية على حكاية وفاة الطفلة صوفي وتداعيات هذه الوفاة. ويعرف القارئ بحادثة الوفاة منذ الصفحة الرابعة في الرواية، لكن تفاصيل الحادثة وانعكاساتها تظل غامضة بالنسبة إليه إلى أن تكتمل الرواية في فصلها الأخير حيث تنحل خيوط الحكاية المعقدة في السرد الذي تنسجه الكاتبة حول حكاية موت الطفلة الإنكليزية - الهندية التي تكثف المأساة وتقوض أركان عيش التوأمين وأمهما المطلقة. ونحن نرى الكيفية التي تنجدل بها خيوط هذه المأساة على لسان التوأمين راحيل وإيسثابين، اللذين يمثلان توأمين سياميين يفكران بالطريقة نفسها ويريان العالم بعينين اثنتين لا بعيون أربع. إن الراوي، الكلي العلم أحياناً والمشارك في أحيان أخرى، يعكس في نظرته للأحداث طريقة تلقي التوأمين الطفل والطفلة اللذين يبلغان من العمر سبع سنوات تجربة العيش في مقاطعة كيرالا الهندية الجنوبية التي يتعايش فيها المسيحيون السريان مع الهندوس والمسلمين والمنبوذين من دون أن يؤثر هذا التعايش في طبيعة الانقسام الطبقي الحاد في ذلك المجتمع. يشعر القارئ، وهو يتابع عملية تكون النسيج الروائي وانجدال خيوطه وتعقدها، أن ثمة مصائر تراجيدية تلوح في أفق العمل. وتستخدم روي خبرتها كمهندسة معمارية في بناء العمل الروائي بطريقة تبقي القارئ متقطع الأنفاس إلى نهاية الفصل الأخير حيث يتبين في اللحظات الأخيرة حقيقة ما حدث وانعكاسات ذلك على الطفلين اللذين كبرا وتفرقت بهما السبل بسبب المأساة العائلية التي تقيم جذورها في طبيعة الانقسام الاجتماعي العميق في المجتمع الهندي. تتحرك الرواية في سرد دائري، لتكثف الإحساس بحدث الموت وفقس بيوض المأساة، بادئة من مشهد الجنازة وطيران الوطاويط في فضاء قبة الكنيسة ومنتهية باللقاء العاطفي بين أم التوأمين والشاب الذي ينتمي إلى طبقة المنبوذين تحت ضوء القمر وفي أحضان النهر وعلى مقربة من البيت المهجور على ضفة النهر الذي يطلق عليه التوأمان اسم"قلب الظلام"في إشارة دالة إلى رواية جوزيف كونراد التي تحمل الاسم نفسه. تتلخص الحكاية في زواج أم التوأمين، أمو المسيحية السريانية، من شاب هندوسي من مقاطعة البنغال ليتبين لها في ما بعد أنه سكير ضعيف الشخصية لا يقدر على إعالة زوجته وطفليه التوأمين فتعود إلى أهلها في مقاطعة كيرالا لتعيش مع أمها وأخيها العائد من أكسفورد بعد زواج فاشل كانت الطفلة صوفي نصف الانكليزية - نصف الهندية ثمرته. وأثناء مجيء صوفي وأمها لزيارة والد الطفلة وعائلته، تغرق صوفي بعد أن تكتشف العائلة علاقة أمو مع الشاب المنبوذ الذي يعمل في مصنع المخللات الذي تملكه العائلة. الشخصيات في الرواية محدودة العدد، وليس هناك إلى جانب العائلة المسيحية السريانية سوى الشاب المنبوذ فيلوثا وأبيه وأخيه المشلول والرجل الشيوعي الذي يسهم في تقويض أعمال العائلة السريانية، لتنتهي الرواية برحيل خال الطفلين، بعد غرق ابنته، إلى كندا، وموت أمو مريضة بالسل بعيدة من أهلها وطفليها، وعودة راحيل من أميركا لرعاية أخيها التوأم الذي فقد النطق وأقام بينه وبين العالم حاجزاً سميكاً من الصمت المطبق. لغة الأحداث في الرواية شديدة الكثافة، كما نرى. ثمة غموض وغشاوة من الضباب الرقيق تغطي الأحداث القليلة التي تشكل العمود الفقري لهذه الرواية الطويلة نسبياً 340 صفحة. ولكن هذا الغموض، في الوصف والاستعارات وكيفية تضافر الحكايات الفرعية في الرواية، يمثل سر نجاح هذا العمل وقدرته على إرضاء أذواق شرائح واسعة من القراء. كما أن مرجعيات"إله الأشياء الصغيرة"ذات طبيعة مختلطة، حيث تتجاور في بنيتها الثقافة الشعبية، ممثلة بألفيس بريسلي والروك أند رول والمسلسلات والبرامج التلفزيونية ذات الطبيعة الخفيفة، وثقافة الحداثة ممثلة في رواية"قلب الظلام"التي تكثر الإشارة إليها وإلى بطلها كيرتز الذي تقيم أرونداتي بينه وبين الانكليزي صاحب"بيت التاريخ"صلات شبه على مدار فصول الرواية، محاولة، من خلال ذلك، أن تذكر القارئ بطبيعة المهمة المعقدة للرحلة التي قام بها كيرتز إلى قلب الظلام في أقاصي إفريقيا، حيث تعقد روي صلة بين مهمة كيرتز في رواية جوزيف كونراد ومهمة ذلك الرجل الانكليزي الذي انتحر تاركاً"بيت التاريخ"، أو بالأحرى"بيت الأشباح"ليكون شاهداً على اللقاء المستحيل بين الطبقات في الهند، وكذلك على جريمة قتل فيلوثا التي ارتكبتها الشرطة من دون أن تتحقق من طبيعة الاتهامات التي وجهت إليه بخطف الطفلين وإغراق الطفلة صوفي. بعيداً من الرسالة الاجتماعية التي يحملها العمل الروائي، فإن لغته الشديدة الحيوية وأسلوب لعبه بالكلمات، والتكوينات اللفظية والنحوية الغريبة على اللغة الانكليزية، والتكرارات التي ترقى إلى أسلوب الرقى والتعاويذ، والاستعارات المدهشة، والصور الحسية الدافقة المتألقة، التي يعد الفصل الأخير تمثيلاً ذروياً لها، هي التي دفعت هذا العمل ليحتل مكانته بين الروايات الكبرى، في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، إلى جانب روايات غابرييل غارسيا ماركيز وسلمان رشدي وميلان كونديرا. الجانب الآخر الأكثر شهرة في عمل أرونداتي روي يتمثل في نشاطها الدائب ضد العولمة والإمبريالية وبناء السدود الضخمة في الهند، وكذلك ضد التسلح النووي وأخطار القنبلة النووية التي تتباهى كل من الهند وباكستان بامتلاكها. وقد كتبت روي عدداً من الكتب، التي لاقت رواجاً كبيراً في العالم الناطق بالإنكليزية، وكذلك في بلدها الهند، وكلها تدور حول السياسات الكونية والعولمة المتوحشة، والحرب على الإرهاب، وعودة الاستعمار الأميركي لينتشر على الأقدام في بعض المستعمرات الغربية العتيقة. في تلك الكتب التي تجمع بين صيغة التضامن، مع من لا يملكون القوة، والتحليل الذكي والخلاق، تعمل الروائية الهندية الشابة على سرد وقائع محددة ومتابعتها بالتحليل وضرب الأمثلة. ينطبق هذا التوصيف على"نهاية الخيال"1998 وپ"ثمن العيش"1999، وهو بمثابة مانيفستو يركز خطابه على الأفكار الأساسية التي تقيم في فضاء عملها الروائي الأول، أي على الكشف عن طبيعة فساد الأفكار والنظام الذي يتحكم بحياة الجماهير الغفيرة في الهند الشاسعة المقسمة والمنقسمة على ذاتها. كما أنها أصدرت، في السياق نفسه، عدداً آخر من الكتب السجالية:"علم جبر العدالة اللانهائية"2001 وپ"سياسات القوة"2001 وپ"حديث الحرب"2003، وپ"دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية"2004، والكتاب الأخير يجمع عدداً من مقالاتها التي نشرتها خلال السنوات الثلاث الأولى من الألفية الثالثة. وفي تلك المقالات نقع على لحمة تفكير الكاتبة الهندية الشابة ورؤيتها لقضايا العولمة والرأسمالية المتأخرة والإمبريالية الجديدة التي تعود إلى استخدام الآليات التي انطوى عليها الاستعمار الأوروبي القديم، في محاولة للعثور على أوجه الشبه بين الإمبريالية الأميركية الزاحفة على العالم الثالث وبين الإمبريالية التي اكتسحت الهند، وغيرها من بلدان آسيا وإفريقيا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك في النصف الأول من القرن العشرين.