حين كتب أب سعودي إلى عميد إحدى الكليات يطلب منه قبول ابنه في وظيفة "فراش" أو طالب، لم يكن المجتمع يعي أهمية الدراسة في شكل عام والدراسة الجامعية في شكل خاص. لم يكن من المحتمل لدى الآباء رؤية أبنائهم على مقاعد الدراسة تاركين وراءهم متطلبات المنزل ومهن الآباء والأجداد لأجل الاستماع إلى معلم يشرح لهم كثيراً من الأشياء التي يظنونها ترفاً لا يحتاجونه. قلة قليلة وعت أهمية الدراسة والتحصيل العلمي، وألزمت أبناءها الالتحاق بالتعليم العام والتعليم الجامعي فيما بعد، وظهر حينها مصطلح الابتعاث والطلاب المبتعثين إلى الخارج للدراسات العليا. ويروي أحدهم أنه ذهب لإعداد دكتوراه في الأدب، وحين عودته فرحاً بالشهادة فوجئ بأن أقاربه يعتقدون بأنه ذاهب لدراسة الطب، لارتباط لقب دكتور بالطبيب. ولما أخبرهم بالفارق انفضوا من حوله هازئين به وبشهادته. وإذا كانت المدارس الثانوية والمتوسطة استطاعت استيعاب مئات الآلاف من الطلبة، فإن الجامعات السعودية لم تنجح في ذلك بعد، خصوصاً ان الجميع بات على يقين أن إكمال المرحلة الجامعية والبكالوريوس على الأقل شرط للوظيفة، أو حتى للعمل التجاري الحديث. يرفض أيمن عبدالعزيز أن يتوقف عن التعليم بعد المرحلة الثانوية، ويصر على أنه من الواجب إكمال الدراسة الجامعية، حتى وإن رغب في العمل في إدارة أعمال والده التجارية،"فالشهادة الجامعية مطلب اجتماعي قبل أن تكون مطلباً علمياً"كما يقول أيمن، مشيراً إلى أن العديد من أولياء الأمور يرفضون تزويج بناتهم لمن لا يحمل مؤهلاً جامعياً على الأقل. وإذا كان أيمن الذي بات متأكداً من مستقبله المهني، يحرص على إكمال الدراسة الجامعية، فإن عشرات الآلاف من الطلاب لم يكتفوا بالحصول على الشهادة الجامعية بل دعموها بعشرات الدورات التدريبية في مجال تطوير الذات، وعلوم الحاسب، واللغات الأجنبية، أملاً في الحصول على فرص وظيفية"متميزة". الباحثون عن الفرص التجارية، كانوا سباقين إلى إنشاء معاهد تدريب في شتى المجالات. لا تتوقف الإعلانات في الصحف ووسائل الإعلام عن الترويج لدورات لا حصر لها في الإدارة ومهارات التفكير وإدارة الاجتماعات والحوار، والعديد من الموضوعات التي تلقى إقبالاً من الشباب الراغبين بتدعيم سيرهم الذاتية بهذه الدورات، ويؤكد يوسف سليمان 20 سنة أنه يسعى إلى الحصول على دورات متنوعة أثناء دراسته الجامعية، أملاً في الحصول على مستقبل وظيفي أفضل. وليست معاهد التدريب المحلية هي الوحيدة في مجال التدريب ومنح الشهادات، فالسوق السعودية بحسب كثير من المدربين تتسع لكل الدورات المتخصصة والشهادات العلمية."الجامعات المفتوحة"والجامعات التي تعتمد على التعليم من بعد أو التعليم بالمراسلة، افتتحت فروعها في السوق السعودية أخيراً، ويمكن من خلالها الحصول على شهادة البكالوريوس أو الماجستير وحتى الدكتوراه في مقابل مبالغ لا تتجاوز خمسة آلاف دولار لبرنامج الدكتوراه مثلاً. وعلى رغم عدم اعتراف وزارة الخدمة المدنية، المسؤولة عن التوظيف في الدوائر الحكومية، بمعظم هذه الجامعات، إلا أنها تشهد إقبالاً متزايداً من الطلاب الذين يؤكدون أن القطاع الخاص يعترف بهذه الشهادات ولا يرى فرقاً بينها وبين الشهادات العلمية الأخرى. ويؤكد سعد إبراهيم 29 سنة الذي يوشك على الحصول على شهادة الدكتوراه من بعد، أن الدراسة في هذه الجامعات سهلة جداً، ويمكن الحصول على شهادة الدكتوراه خلال سنة واحدة فقط بعد اجتياز اختبارات مبسطة، وتقديم بحث تكميلي لا يتجاوز 200 صفحة ولا يحتاج إلى لجنة مناقشة لإجازته. زيادة عدد الخريجين من الجامعات، ساهمت في التقليل من قيمة الشهادة الجامعية، ولم تعد تلك الشهادة ذات قيمة عالية كما هو الأمر في السابق. فالمكافأة التي تبلغ 13500 دولار، وتمنح لكل خريج جامعي لحضّ الطلاب على الالتحاق بالتعليم العالي أوقفت منذ فترة، وبطالة الجامعيين باتت أمراً ليس بالغريب في المجتمع السعودي. إعلانات الجهات العسكرية والحكومية الأخرى التي تطلب موظفين بشهادات متوسطة وثانوية، تمتلئ بخريجي الجامعات مباشرة فيما يبقى حاملو الشهادات المتوسطة والثانوية بعيدين من أي وظائف تخصص لهم، فالشهادة المتوسطة والثانوية أصبحت منسية في ظل كثرة العاطلين من حملة الشهادات العليا. ولم تعد الجهات التي تطلب موظفين من حملة الشهادة الجامعية تكتفي بتلك الشهادة كما كان الأمر سابقاً، وباتت تشترط الخبرة واللغة الإنكليزية والدورات التدريبية، فالشهادة الجامعية لم تعد مغرية لهم، وطالبو الوظائف من حملة الشهادة الجامعية أكثر بكثير من الوظائف المطروحة، الأمر الذي يدفع حملة الشهادات العليا والمدعمة بعشرات الدورات التدريبية إلى الوظائف المخصصة لمن هم دونهم في التحصيل العلمي، فالوظيفة ولو كانت غير طموحة أفضل من الجلوس في المنزل بلا عمل. أحمد الذي حصل على شهادة الماجستير في أحد التخصصات النظرية، فوجئ بعد عودته من الخارج بأن شهادته غير مغرية للجهات الحكومية والقطاع الخاص. فالعديد من أفراد مجتمعه يحمل الشهادة ذاتها ولم يجد من يقدرها. الأمر الذي دفعه إلى التقدم الى وظيفة"صراف"، على رغم أن هذه الوظيفة تقبل من يحملون شهادات المرحلة الثانوية!