بعد اثني عشر عاماً، قضاها أكراد العراق في منطقة الملاذ الآمن التي تشكَّلت عقب حرب الخليج الثانية سنة 1991، لحمايتهم من هجمات النظام العراقي السابق، وإعلانهم للفيديرالية من جانب واحد، تم إقرار النظام الفيديرالي في القانون الأساسي لإدارة الدولة، ثم في الدستور العراقي، عقب سقوط النظام السابق. خلال تلك الفترة، ومع كل السلبيات التي شابت التجربة السياسية شبه المستقلة في كردستان العراق، كانت وما زالت هذه التجربة، محطَّ أنظار الأكراد في كل مكان، باعتبارها تتويجاً للنضال والتضحيات الكردية عموماً، وفي كردستان العراق خصوصاً، باعتبار أنها قد تكون نواة للطموحات الكردية في"كردستان الكبرى"مستقبلاً. وقد انتعشت الآمال الكردية بتوحيد إدارتي الحزبين الرئيسين في كردستان، وتشكيل برلمان وحكومة موحَّدة، وتبوّئ أحد القيادات الكردية المهمة جلال طالباني سدَّة رئاسة الحكم في العراق، فضلاً عن الحضور الكردي النشط والفاعل في الحكومة المركزية، ما خلق ردة فعل سلبية من كل القوى والأنظمة الإقليمية المعادية للحقوق الكردية، بخاصة تركيا. الحق أن إقليم كردستان العراق الفيديرالي شهد في الآونة الأخيرة، نقلة نوعية على الأصعدة كافة، قياساً بالفترة السابقة، خاصة في ميدان حقوق الإنسان والحريات العامة والإعلام، وإحياء وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني في بلورة وتشكيل سلطة الرأي العام الرقابية على الأداء الحكومي في القطاعات كافة ، خصوصاً الخدمية منها. وبحسب الكثير من المعلومات والأنباء الواردة من هناك، من المؤسف القول إن رياح الفساد باتت تهدد هذه التجربة، عبر تفشِّي المحسوبية، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وسوء الخدمات في قطاع الكهرباء والمياه والمحروقات، واحتكار العشائر والعوائل المتنفِّذة في الحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني، للمناصب السياسية والإدارية، وسيطرتها على القطاعات الاقتصادية الحيوية، كالنفط والاتصالات والمواصلات والطيران والإعلام والاستيراد والتصدير...الخ، ما يوشك على تدمير الطبقة الوسطى، لصالح نشوء طبقة تنعم بغنى فاحش، غالبيتها من الساسة وزعماء العشائر، وطبقة تنحدر بها الحال نحو الفقر. لا يخفى على أحد دور التركيبة القبلية والعشائرية في الحزبين الرئيسين في كردستان العراق، حتى أن معظم رموز الطبقة السياسية الكردية هناك، ينسبون لقبائلهم كطالباني، بارزاني، زيباري، ميراني، السورجي، البرواري... وبديهي أن ينسحب هذا سلباً أو إيجاباً على الأداء السياسي والتوازنات الحزبية والسياسية هناك، عبر تغذية"القبلية السياسية"أو صون دور القبيلة في الحراك السياسي الكردي، ما خلق مناخاً خصباً لنشوء وتطور الفساد واستشرائه في مفاصل الكيان الكردي. هذه الحقيقة يتفادى الكثير من الساسة والمثقفين والإعلاميين الاكراد، داخل وخارج كردستان العراق، ذكرها والتطرق لها بالنقد، والخوض في تبعاتها الوخيمة على هذه التجربة التي تعتبر ثمرة دماء مئات الألوف من الشهداء، عبر عشرات السنين من النضال، لجملة من الأسباب: 1- لا تزال منظمات المجتمع المدني في كردستان في طور النشوء، لذا فهي لا تمتلك بعد الثقافة المؤسساتية المنتجة لسلطة المجتمع الرقابية على الدولة، ناهيك أن غالبية المؤسسات الإعلامية هي في يد الحزبين الرئيسين. 2- خوف الكثير من أن يطالهم ما طال الدكتور كمال سيد قادر الذي حكمت عليه محكمة في"هولير"الخاضعة لنفوذ الديموقراطي الكردستاني، بالسجن لمدة 30 عاماً، لمجرد أنه انتقد الفساد، وتمَّ الإفراج عنه نتيجة ضغوط كردية ودولية من منظمات حقوق الإنسان واللجان المدافعة عن حرية الكتابة والصحافة. ومعلوم أن قادر من مواليد"هولير"1957، حاصل على شهادة دكتوراه في القانون الدستوري ودكتوراه في العلوم السياسية، ويعمل باحثا قانونياً في جامعة فيينا. 3- اعتبار الكثير من الأكراد، أن إثارة هذه الامور لم يحن وقتها، لأن من شأنها خلق البلبلة في الأوساط الكردية، وفتح أفواه وأعين المعادين للحقوق الكردية من العرب والاتراك والفرس على نقاط الضعف في هذه التجربة، التي ينبغي أن نصونها، حتى لو اضطررنا للتعامي عن الكثير من سلبياتها. وغني عن البيان، أن الفساد لا يخلق هوَّة بين المجتمع والسلطة السياسية، نتيجة فقدان ثقة الشعب بصدقية مؤسسات الدولة وحسب، بل يشعر المواطن بعدم جدوى الدفاع عن مؤسسات الدولة، التي تعتبر ثمرة دماء المواطنين وتضحياتهم، إذا لاحظ أنها صارت في خدمة زمرة من المتنفذين المستغلين. وهذا ما يفسِّر هشاشة النظم الشمولية، رغم كل جبروتها، حين تتعرض لخطر حقيقي. وهذا ما حصل مع النظام العراقي السابق، ويخشى أن يتكرر في كردستان العراق، إن تعرضت هذه التجربة لمخاطر جدِّية، خصوصاً من الجانب التركي. ومن المفترض أن تعي القيادة السياسية في كردستان العراق لهذه الحقيقة، وتبادر لتحصين الإقليم بمكافحة الفساد والمفسدين، كائناً من كانوا، وأن لا تولي اهتماماً لبعض الأقلام المأجورة التي ترتزق من وراء تبييض وتلميع واقع الحال في كردستان، وإعطاء صورة وردية، مغايرة لما هو موجود. فآفة الفساد في كردستان العراق، لم يعد ممكناً السكوت عنها، وإن كان الرئيسان مسعود بارزاني وجلال طالباني ليس لهما علم بها إلى يومنا، فهنا الطامة الكبرى، لأنه لم نسمع حتى الآن بأية إجراءات حقيقية تم اتخاذها لمكافحتها. والحق أن الغيورين على هذه التجربة يعولون على حكمة الزعيمين الكرديين في استئصال دابر الفساد من كردستان العراق، وإلا فان تجربة الأحزاب العلمانية في قيادة كردستان سوف تتعرض لضربة كبيرة، لصالح انتعاش انتشار الأحزاب الإسلامية الأصولية، لأن الفقر والفساد هما أهم روافد تغذية هذا النهج المتطرف، وهذا ما ذهب إليه مراسل"كريستيان ساينس مونيتور"في هولير جميس براندون في مقاله المعنون:"كردستان العراق وخطر ازدهار الأحزاب الإسلامية"، وأيضاً جوست هيلترمان، مدير مشروع الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية، ومقرها بروكسيل، حيث قال:"الأكراد المتدينون مستعدون دائما للتوجه إلى الأحزاب الإسلامية، كما أن باقي الأكراد سيتعاطفون معهم بسبب توقهم الكبير إلى بديل مختلف عن الأحزاب القائمة". ما يعني أن كردستان في خطر، إن بقي الفساد طليقاً، لا رادع له، والضحية ستكون كردستان وشعبها. وسيبقى رموز الفساد المعششون في الطبقة السياسية هم"زعماء الحرب والسلام"سواء خربت كردستان أو عمرت! * كاتب سوري