في بابل القديمة، تقول أساطير بلاد ما بين النهرين، شيّد الملك نمرود برجاً عالياً جداً. ووسط الحشود من أعلى البرج إلى قاعدته ومن حوله، صعد نمرود المتكبّر العبوس كما صوّرته السينما أيضاً، إلى القمّة ورمى سهماً في اتجاه السماء، في تحدٍّ سافر لآلهة ذلك الزمان. وما لبث أن دوى صوت قوي في الجو ولمع برق وعصفت ريح عاتية... و"تبلبلت"ألسن"المتفرّجين"من حاشية نمرود ورعاياه ومناصريه وحلفائه. فلم يعد أحد يفهم ما ينطق به الآخرون... ثم تشتّت القوم. وقد تكون هذه اللحظة الدرامية أفضل"تخيّل"لنشوء لغات مختلفة على الأرض. واختلاف اللغات لا يفضي بالضرورة إلى الاختلاف بالرأي أو المصلحة... حتى الخلاف والمنازعة. فلغة الجسد والصمت والإيماء والإيحاء، ربما يسّرت استئناف التواصل، بعد القطيعة التاريخية بين البشر. وما إن استعادوا"تواصلهم"تارة بالسلام وطوراً بالحروب، حتى هيمنت لغات على أخرى، واندثرت لغات كانت حيّة في زمن ما. وعلى رغم أن اللغة هي وسيلة التواصل الأبرز حتى الآن، تصبح عائقاً للتقدّم إذا لم تعد صالحة للتعبير عن جوانب معيّنة، كالعلوم مثلاً، وإذا كان منهج تدريسها لا يراعي ضرورات ملكتها وتطوّرها. ففي الصين، مثلاً، تدرّس لغة مبسّطة للصغار تزداد تعقيداً مع تقدّمهم في العمر، توصّلاً إلى امتلاكهم لغتهم المعتادة. وفي عصر العولمة، يلاحظ انتشار اللغة الإنكليزية الأميركية تحديداً في كل تجلّياتها. ويكثر استخدامها بين السيّاح في شتى البلدان، والإنترنت، والمراجع العلمية، وبين جنود القوات المتعددة الجنسية... وبين المراهقين والشباب العرب والفرنسيين وغيرهم... حتى لتكاد تشكّل الوسيلة الجديدة لاستئناف التواصل بين البشر، بعد انعزال كل جنسية منهم في بوتقة لغته الضيّقة. وبات لا مفر للفرد في العالم الثالث والأول أيضاً من أن يكتسب أكثر من لغة ليتواصل مع أقرانه داخل موطنه كما خارجه. فيُخال"تعدد اللسان الإلزامي"كأنه وسيلة جديدة لصون اللغة الأصلية ومنعها من الاندثار بحفظ بعض من مفرداتها في طيات اللغات المهيمنة. في القاهرة، عقد بين 17 و20 الجاري مؤتمر سعى إلى إنقاذ اللغة العربية من أزمتها، من خلال مخاطبة الأطفال وهي المرة الأولى، في محاولة لتلمّس مكامن المشكلة ومصادرها. واللافت أن المؤتمر الأول الذي عقده العرب لمعالجة الضعف والتردي في اللغة العربية كان في 1947 أي قبل 60 سنة. وإذا استمر الاهتمام على هذا المنوال، يؤمل أن يُعقد المؤتمر المقبل في 2067. وفي هذه الأثناء، تستمر اللغة العربية في معظم المهاجر تشكّل رمزاً للبؤس المستمر للأجيال المقبلة من أبناء المهاجرين.