هل من علاقة لازمة بين الصهيونية وبعض المبدعين العرب؟ وهل يجب بالضرورة أن تكون وراء هذا الأديب العربي أو ذاك روح يهودية تلقّنه ما يكتب وما يقول وتأخذ بيده إلى الدرب التي تريد؟ وما هي الفوائد المعرفية والجمالية والأخلاقية المنتظرة من "المنهج الإبداعي الخصيب" الذي يتهم المبدعين متى يشاء؟ والسؤال المنتظر: ما سبب هذه الأسئلة التي تفصح عن الاحتجاج الشديد قبل غيره؟ بما أنّ لكل معلول علّة، فإنّ العلّة ماثلة في إسباغ حلّة الخيانة على أسماء ثقافية عربية جديرة بمنهج آخر، لا يتعامل مع مقولات الرجم والتسفيه والخيانة ومسح الغبار عن الرؤوس بأحجار كبيرة- ففي سبعينات القرن الماضي، وبعد أن استقر العرب في ما استقروا فيه، اكتشف دعاة"المنهج الخصيب"أنّ طه حسين يهودي وأنّ بينه وبين اليهود وشائج قربى ومودة- وحين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل، فسّر أنصار"المنهج"الجائزة بتواطؤ مستور بين الروائي واليهود الذين ترددوا كثيراً على بيته. رأى ناقد حصيف، بعد ذلك أنّ محمود درويش يهودي الثقافة والإلهام، وأنّ شعره إنطاق ل"إسرائيليات"قديمة وحديثة. والحجر الأخير وقع على جمجمة الراحل إميل حبيبي، الذي أثبتت"الوثائق"أنّه صهيوني الوظيفة والغاية، حجب صهيونيته"الأكيدة"بلغة أدبية أفصح عن غوامضها، على غير توقع، منهج"أكاديمي"لا يعوزه الغموض. دخل إميل حبيبي، الفلسطيني الذي أمضى حياته في فلسطينالمحتلة، إلى العالم العربي، بعد هزيمة حزيران يونيو الشهيرة عام 1967، بفضل"دار الهلال"المصرية، التي نشرت له مجموعة قصص:"سداسية الأيام الستة". جاءت، بعد سنوات قليلة، روايته"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، التي أمّنت له مكانة مريحة في الرواية العربية الحديثة. والأديب، الذي أشهرته سخرية مصقولة، صحافي وشيوعي، بل هو كان قائداً شيوعياً ذات مرّة، خاض في الشأن السياسي، وأكثر من الخوض فيه، بعد اتفاقية أوسلو، التي وعدت بالخير العميم وانتهت الى خراب ولود. لم يكن إميل حبيبي، في العقد الأخير من حياته، من هؤلاء المثقفين، الذين يعالجون الأمور بهدوء ورويّة، خلافاً للمؤرخ الراحل إميل توما الذي قاسمه التجربة ذاتها، بل اجتهد وأوغل في الاجتهاد، وهو الساخر إلى حدود العدمية، حتى خالط اجتهاده الكثير من العبث والأحكام السائبة. وهذا ما حمل الكثير من الفلسطينيين وغيرهم، وليس بغير حق، على أن ينقدوه بشدّة، وأن يمعنوا في النقد دفاعاً عن إنجاز أدبي، لا تليق به خفّة مستطيرة. وقد تمحور هذا النقد، كما يعرف أصحاب الذاكرة القصيرة والطويلة، حول نقاط ثلاث: الاحتفال الطائش باتفاق أوسلو، الذي وضع"النصر الفلسطيني"في قبضة اليد، ورمى ب"المتطرّفين"، من الجانب الإسرائيلي والفلسطيني، في صندوق زهيد، يتكفّل المستقبل المرموق بإزالته من الوجود. والنقطة الثانية، وهي أشدّ من الأولى خطراً وأعظم بلاء، قبول"جائزة الإبداع في إسرائيل"في يوم الاحتفال بقيام الدولة العبرية، أي في يوم احتلال فلسطين، بحجة أنّ الجائزة، وبعد اتفاق أوسلو، تعترف"بتفتّح"الإبداع العربي، وتفتح لمن يظفر بها دروباً سالكة خارج فلسطين والعالم العربي. دارت النقطة الثالثة حول هشاشة أخلاقية لا تُحتمل، أملت على حبيبي، الذي اعتنق الشيوعية منذ عام 1940، أن يدافع عن الشيوعية دفاعاً حاسماً متواتراً مغلقاً، قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، وأن يندفع، بعد شهر من سقوط"بلد الرفاق"، إلى تنديد بالشيوعية عاصف وغير مسبوق. لا يدور الأمر، بداهة، حول اعتناق الشيوعية أو التخلي عنها، إنّما يدور حول معنى ودلالة وصدقية"التزام"، عاش خمسين عاماً. بيد أنّ للأمر، لدى من لا ينصّب ذاته قاضياً على وجوه الناس وأرواحهم، وجهاً آخر. فلو كان إميل حبيبي مارقاً، جاء من الشوك وإلى الشوك ذهب، لما كتب أدباً رفيعاً، ولما تجشّم صاحب"المنهج الذهبي"عبء إحراقه حيّاً وميتاً- فواقع الأمر أنّ نثر هذا الفلسطيني، الذي أتقن لعبة القناع بين جدران الاحتلال الإسرائيلي، يدلل على أمرين واضحين لا يشوبهما الغموض: لم يكن إقباله على اللغة العربية، الذي تاخم الشغف، إلاّ دفاعاً عن هوية عربية معتقلة، عثرت في اللغة العربية على منفذ مريح، دفع بصاحب القناع المغترب إلى حفظ المعري والطبري وابن عربي...، مؤكّداً اللواذ بالموروث العربي هوية وطيدة متاحة- ولعلّ هذا الشغف، الذي عمل على حفظ التراث ومحاكاته وتجاوزه، هو الذي أعطى ذلك النثر القريب من الندرة في روايته الأخيرة:"سرايا بنت الغول". تكشّف الأمر الثاني، وفي شكل موازٍ، في حفظ التاريخ العربي والعودة المستمرة إليه، وهو ما تعلن عنه الهوامش الكثيرة التي وضعها في كتبه. أما التنديد بشيوعيته المتصهينة، أو بصهيونيته الشيوعية، فلا تجلب الترياق إلى كأس عَكِر. فقد كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أو"ركاح"، ملاذاً للمبدعين الفلسطينيين، ينشرون أعمالهم في صحفه ومجلاّته، وهو ما صرّح به محمود درويش و"شاعر العروبة"سميح القاسم، أكثر من مرّة- بل انّ هذا الحزب، الذي كانت أكثريته من العرب، ولا تزال ربما، دافع عن حقوق الفلسطينيين المدنية، وعمل على تحسين معاشهم تحت الاحتلال. ومن دون الرجوع إلى وثائق، أو ما يشبه الوثائق، فإنّ اشتقاق صهيونية حبيبي المفترضة من شيوعيّته، تستلزم تأثيم الفلسطينيين الذين انتسبوا، أو ينتسبون اليوم، إلى الحزب الشيوعي وصولاً، طبعاً، إلى اعتبار الخيانة مكوّناً أساسياً من مكوّنات الشخصية الفلسطينية. بيد أنّ الأمر الأقل نزاهة هو إحراق الفرد الذي يدعى إميل حبيبي، الذي كان قريباً ومقرّباً من الإدارة السياسية الرسمية، قبل اتفاقية أوسلو وبعدها. لماذا تستّرت القيادة الفلسطينية على صهيونيته المفترضة، وهي العليمة ببواطن الأمور وخباياها، ولماذا أدخلت إلى صفوفها"عميلاً صهيونياً قديماً"، واحتفت به وأكثرت من الاحتفاء؟ ألم يكن هو الأديب الأول الذي حاورته مجلّة"الكرمل"في عددها الأول عام 1981؟ يرجع المكوّن الخياني في الشخصية الفلسطينية مرّة أخرى، مضيفاً إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي منظمة التحرير كلها، ناشراً الخيانة على من يشاء، وواصماً ما تبقّى بالسذاجة والغفلة- إنّه القاضي الأكاديمي، أو القاضي الذي تضمن له الأعراف الأكاديمية النزاهة والسلامة في آن! والسؤال هو: لماذا الدفاع عن إميل حبيبي، الذي وصفه ناقد فلسطيني في حياته ب"قناع متعدّد الطبقات لوجه لا وجود له"، وما ضرورة هذا الدفاع عن أديب أجاب مطمئناً:"أنا الوجه وهم القناع"- والجواب، الذي يمكن أن يكون بسيطاً، متعدّد العناصر: لا وجود لإنسان كامل إلاّ في وعي مريض، ولا معنى للوعي المريض الذي يساوي بين النار والرماد. ولماذا الاحتفال ب"اللطخة"والإعراض عن الوجه المنير؟ لقد كان الراحل إميل حبيبي، الذي إنْ أعجبته قهقهته المتمادية قهقه من جديد، روائياً عربياً مجدّداً، دخل إلى الرواية من خارج التقاليد الروائية، متوسلاً المقامة والتراث الشعبي و"صندق العجب"وأشياء من أحوال التصوّف الإسلامي- أليس في هذا ما يسمح بصفحة متسامحة؟ ألا يستحق ذلك التجديد الخلاق الذي أدخله إلى رائعة فولتير:"كانديد"، من وجهة نظر الفلسطيني اللاجئ في أرضه، شيئاً من الغفران وإقصاء أدوات التعذيب، ولو بمقدار؟ هل يستطيع كل الفلسطينيين، أو بعضهم، معالجة القمع الإسرائيلي بحكايات عربية تراثية كما فعل في روايته الحزينة"إخطية"؟ إذا تركنا الاستعطاف الحامض، الذي لا ضرورة له، جانباً، وصلنا إلى عنصر جديد، قد يرطّب"العلم الأكاديمي الحارق": تشكّل أعمال حبيبي، في مستوياتها المتباينة، وثيقة تحتاجها الذاكرة الوطنية التي تريد أن تعيش: لا شيء أكثر إفصاحاً عن مرارة الخروج وأسى القرى المهجورة من تلك الصفحات التي سطّرها حبيبي في القسم الأول من رائعته"المتشائل". ولا شيء يثير الشجن إلى حدود البكاء مثل صفحات"إخطية"، التي استعادت صوراً من فلسطين، كانت وارتحلت، وأوغلت فيها اظفار المحو والهدم والاستبدال الصهيونية، إذ الشوارع تساقطت أسماؤها، وما كان عربياً أصبح طللاً من"أيام العرب". وبعيداً من تلك الأحكام السود، التي تساوي ذاتها لا أكثر، فمن المطلوب منطقياً، قبل غيره، تهذيب حبيبي وتشذيبه وإضافته إلى"مكتبة ثقافية وطنية"، يحتاج الفلسطينيون إليها اليوم، وفي المستقبل أيضاً، يأخذ فيها موقعه إلى جانب غسان كنفاني الذي كره الخيام ومدح البنادق، وسميرة عزّام التي رأت المنفى خللاً في الوجود، وإدوار سعيد، الذي انتسب إلى الكون وفلسطين معاً،... والقانون، الذي لا يدّعي الحكمة، بسيط: في أزمنة الانتصار ينسى المنتصرون رموزهم ولو بمقدار، لأنّ الانتصار سلطة تنهر غيرها، على خلاف المهزومين الذين يخترعون رموزاً، تسعفهم على الوقوف من جديد. يختلف النقص من إنسان إلى آخر، ومن تعارف الناس عليه أديباً يتعرّف بأدبه، قبل غيره، وأحوال الأدباء، وهم من المستضعفين في الأرض بلغة نجيب محفوظ، لا تفسّر ضياع أرض متوارثة، ذلك أنّ الذين يهزمون القضايا العادلة لا يحتاجون إلى الأدباء. سؤال أخير: ماذا يجني الشعب الفلسطيني، الذي يسير من تمزّق إلى آخر، من كتاب يقصّر المسافة كثيراً بين الخيانة والروح الفلسطينية؟ هذه كلمات بمناسبة ظهور كتاب جديد قرأ إميل حبيبي، وأوغل في قراءته ثم جمع أطرافه، حيّاً وميتاً، وأضرم بها النار.