للسنة الثانية فاجأت مئات الألوف من اللبنانيين قادة قوى 14 آذار بحجم مشاركتهم في احياء الذكرى الثانية لاغتيال رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري. فجريمة استهداف حافلتي الركاب المدنيين في عين علق لم يمض على ارتكابها 24 ساعة، والانقسام الذي شهده البلد غداة تصعيد المعارضة تحركاتها، وتحول قبل أسبوعين الى مواجهات دامية وأجج الاحتقان المذهبي في النفوس، واغلاق الطرق المؤدية الى وسط بيروت بسبب مواصلة المعارضين اعتصامهم المفتوح... كل ذلك أوجب تدابير امنية لا مثيل لها وسلوك طرق بعيدة للوصول الى ساحة الشهداء. لكن الناس على رغم كل شيء اتوا، كما فعلوا السنة الماضية، حملوا اطفالهم الى الساحات... ومعهم حملوا قلقاً يكبر على المستقبل. بدا من الصور والرايات واللافتات التي حملها القادمون الى ساحة الشهداء، انهم لا يريدونها مناسبة للحقد او لتجديد الاحتقان، جاؤوا كما قال عدد كبير منهم، لأنهم"اشتاقوا الى الرئيس الحريري". لم تكن ثمة هتافات جديدة من وحي احداث طرأت، مجرد مجموعات صغيرة من الفتية من منطقة الطريق الجديدة حاولوا اطلاق هتافات شابها الكلام المذهبي والشتائم لكنها بدت في غير سياق المكان والزمان. كان الناس يصلون الى ساحة الشهداء من"بوابتين"، من امام مقر حزب الكتائب في منطقة الصيفي للآتين من الشمال والجبل والبقاع والأشرفية، ومن منطقة عين المريسة نزولاً الى ستاركو فشارعي ويغان وفوش للآتين من أحياء بيروت والجنوب والشوف واقليم الخروب. اما الطرق التي اعتاد الناس سلوكها سابقاً من شارع بشارة الخوري والبسطة التحتا والسوديكو، فكانت ممنوعة عليهم بحواجز من الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي. ما يعني السير لمئات الأمتار الإضافية للوصول الى المكان. كثيرون وصلوا الى ساحة الشهداء منذ الصباح الباكر، وتسبب التفتيش المتشدد الذي كان يخضع له كل شخص من قبل الأجهزة الامنية، بزحمة خانقة، فامتدت الحشود الى منطقة الدورة. وتردد ان قوافل كثيرة لم تتمكن من اجتياز جبيل وجونيه وصولاً الى بيروت، كما امتدت الحشود في الجهة المقابلة الى عين المريسة. وفاضت ساحة الشهداء بالبشر الى الشوارع القريبة المسموح التجمع فيها... الى محلة مار مارون والجميزة وشارع فوش واستحال حصر الناس في صورة جامعة كما كان يحصل في السنتين الماضيتين. ملأت الجموع كل الزوايا وانحشر المئات بين الحواجز الحديد وبين الحشود المصرّة على التقدم، وأغمي على بعضهم ونقله الصليب الأحمر الى مراكز قريبة لإسعافه. وافترشت عائلات من البقاع والشمال زوايا اخرى مع زوادات الطعام، وتدافع الأطفال وراء شبان كانوا يوزعون الكعك المخلوط بالتمر"عن روح الرئيس الحريري". وحرص الناس على اصطحاب أعلامهم اللبنانية معهم اثناء توافدهم الى الساحات وفي طريق العودة، لكن رايات"القوات اللبنانية"كانت حاضرة بقوة وبدا ان ثمة اصراراً حزبياً على ان يحمل كل"قواتي"راية لإظهار حجم المناصرين وطبع على بعضها المناطق التي اتى منها"القواتيون"مثل بتغرين وزحلة وبشري، في حين اقتصر حمل راية الحزب التقدمي الاشتراكي بأحجام ضخمة على قادة المجموعات التي جاءت للمشاركة في الذكرى. وحمل انصار"المستقبل"راياتهم البيض التي تحمل شعار التيار فيما حرصت النسوة ولا سيما الفتيات، على ارتداء اللون الازرق، اللون الذي اختاره التيار دلالة الى المطالبة بالحقيقة، مثلما حرصن على رفع صور الرئيس الحريري ورئيس كتلة"المستقبل"النيابية سعد الحريري. ومزج بعض الفتية بين رايات حلفاء 14 آذار مشكلاً منها راية واحدة. ثمة رايات اخرى رفعت بأحجام كبيرة لإثبات"وجود ملتبس"كراية"المرابطون"، وأمكن رصد رايات للجماعة الإسلامية و"النمور الأحرار"، وكثرت الرايات الكتائبية المرفوعة في محلة الصيفي. وإذا كانت صور الرئيس رفيق الحريري الأكثر تداولاً بين أيدي الناس وبعضهم ثبتها على رأسه وآخرون الى صدرهم، لفت وجود البعض علم المملكة العربية السعودية بين الرايات المرفوعة، كما حمل بعضهم صوراً لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة. منذر رستم اصطحب عائلته الى ساحة الشهداء من القبة في طرابلس، قال انه يأتي الى الساحة"من اجل الذي استشهد لأجل الوطن الذي يجب ان نحافظ عليه"، لم يحمل راية احد شأنه شأن الشابة ميراي التي جاءت من عاليه وقالت"ان البلد يفتقد الرئيس الحريري في هذا الظرف". وبدت نادية عصيدة من تعلبايا في البقاع حاسمة في مطالبها:"نحن مع الحكومة ومع الاستقرار، وانفجار بكفيا لم يرهبنا". ومثلها الشيخ الدرزي حبيب ابو عجم الآتي من عاليه والذي قال:"الله ينصر الحق ونعرف من قتل الرئيس الحريري". اما حنان الأيوبي من الكورة، فأكدت ان انفجار عين علق زادها اصراراً على المجيء الى ساحة الشهداء:"الله يرحم روحه هو عمر وغيره دمر والله يأخذ بيد ابنه". بين الحشود شابان فرنسيان، نيكولا رحمة 15 سنة وبيار رحمة 18 سنة. كانا يحملان راية"القوات"وقالا باللغة الفرنسية انهما من اصل لبناني ومن بشري تحديداً وهما جاءا خصيصاً الى لبنان للمشاركة في الذكرى"وفاء للبنان والرئيس الحريري والدكتور جعجع وكل الأحرار". ومن كفر حباب جاءت اسبيرانس مع زوجها وابنهما لتأكيد"اننا نريد لبنان الموحد". وبدا شاب من مزرعة يشوع غير آبه بالزحمة وهو يمسك بأطفاله ويحدثهم باللغة الانكليزية، قال انه طبيب وهو جاء ليقول"الله يرحم الشهداء كلهم ولا نريد ان يعود السوريون الى لبنان لإرهابنا بعد اليوم". سامر ابو علي راح يدفع بأطفاله أمامه كي لا يضيعوا عنه، وقال انه جاء مع العائلة من راشيا الوادي"لنقول بدنا الحقيقة وبدنا نعيش ونقول للشبان المعتصمين في الخيم خلفنا بدنا الشراكة لكن كي نعيش كلنا في وطن واحد وليس على طريقة بشار الاسد". زياد الصيدلي القادم من احد احياء بيروت، تمنى ان يهدي الله المعارضة، فيما زميله ربيع رأى ان ما اختلف هذه السنة عما سبقها ان البلد مقسوم، وپ"نحن جئنا لنقول اننا مصرون على المحكمة الدولية وعلى الحياة معاً، نريد الاطمئنان الى أطفالنا"، وتمنى ربيع ان يصر الخطباء في المهرجان على هاتين النقطتين وقال:"من في المعارضة لم يقتل لهم قائد وان شاء الله لا يحصل ذلك وكل ما نطلبه العدالة". امام تمثال الشهداء وقف جوزيف هيكل وزوجته"اعزلين"من أي علم او صورة او شعار، وقالا انهما جاءا من الاشرفية"لنجدد الولاء الى الرئيس الشهيد ولنقول للآخرين يكفي لا شيء يحصل بالقوة المطلوب التفاهم والتضامن"، وسألت الزوجة:"لماذا هناك 918 خيمة؟ لماذا عطلوا رزق العالم؟ كفانا قهراً وحرباً، اولادنا هاجروا ولم يبق قي البلد الا حملة السلاح لماذا؟". وتمنى هيكل ان يتم ضم شهداء عين علق الى قافلة شهداء الحرية. رحاب ابو شقرا التي جاءت من عماطور الشوف حرصت على الطلب الى المعارضة ان يضعوا ايديهم في ايدي الموالاة"وما بدنا لا سورية ولا ايران ولا كل الدول الاخرى". ورددت مجموعة من الشبان والفتيات، قالوا انهم من"حزب الهانشاك"، هتافات بالأرمنية. مجموعة من المحامين وقفوا قريباً من مبنى صحيفة"النهار"قالوا انهم من كل الأديان والمذاهب و"بيننا شيعة ايضاً". وقال كارلوس كيروز انه اكثر اصراراً على الخط السياسي الذي تبناه قبل سنتين"ونحن نحترم رأي المعارضة على رغم الاختلاف". لكن زميله في المحاماة بول قال انه جاء اليوم ويشعر انه يضحك على نفسه"والحلم الذي كان ممكناً تحقيقه قبل سنتين صار صعباً اليوم لأن"الهبل صار اكبر من كل شيء". كانت الحشود امس تدير رؤوسها الى حيث ثبتت مكبرات الصوت لمتابعة الخطب التي كانت تلقى تباعاً. وجهد بعضهم لرؤية المنصة ومن عليها، وما انقطع التواصل مع كل كلمة حماسية يرددها الخطباء ولا سيما كلمات النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية لپ"القوات اللبنانية"سمير جعجع والنائب سعد الحريري. صرخت الحناجر مؤيدة للمطالبين بپ"المحكمة الدولية"والى"أشرف الرجال"وان"لا سلاح الا سلاح الجيش اللبناني"، وان"لا للثلث المعطل"، وهتفت مستنكرة"لأنصاف الرجال"وپ"حرق الدواليب"وحين توجه جعجع الى"من في بعبدا"صرخت الجموع في شكل هستيري"لحود طلاع برا". في الواحدة إلا خمس دقائق استعاد عريف المهرجان لحظة تفجير موكب الرئيس الحريري مستعيناً بصوت انفجار وامتزجت على أثره أصوات التكبير وقرع أجراس الكنائس وفق توليف درامي، ووقف الناس إجلالاً وذرف بعضهم الدموع وردد كثيرون"الله يرحمه".