لم تفلح التدابير التي اقامها الجيش اللبناني عند مداخل بيروت كإجراء أمني في يوم"انتفاضة الاستقلال"، التي دعت اليها المنظمات الشبابية المعارضة، في عرقلة وصول مئات الألوف من اللبنانيين الى محيط فندق"فينيسيا"، لاحياء ذكرى مرور اسبوع على اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. كما لم تفلح كل التصريحات التي ادلى بها اركان في السلطة عن وجوب الحصول على"علم وخبر"، ولا الانباء التي راحت تتسرب عشية المسيرة عن قرار بقمعها، في تراجع المشاركين فيها عن مطلب"خروج القوات السورية من لبنان". كان الاتهام مباشراً والصوت مدوياً، ولم يعد مستغرباً ان يهتف طلاب جامعة بيروت العربية"أي ويللا سورية طلعي برا"فيما يرفع طلاب"التيار الوطني الحر"صليباً وقرآناً ويهتفون"اسلام ومسيحية، وحدة وحدة وطنية". بكر طلاب"التيار الوطني الحر"في المجيء الى المساحة المحيطة بفندقي"فينيسيا"و"مونرو"القريبين من المكان الذي حصل فيه الانفجار والمطوق منذ اسبوع من اكثر من جهاز أمني. جاءوا بكامل"عدة"التظاهر التي اعتادوا استخدامها في مناسبات صارت ملتصقة بهم. اعلام لبنانية ولافتات وهتافات تتكرر منذ سنين اضافوا اليها جديداً يثبت وجهتهم، ووقفوا قبالة الصورة التي رفعت للحريري على الرصيف المقابل لمكان اغتياله ينتظرون دفعات اخرى من رفاقهم. والحماسة التي اصابت العونيين مسَّت ايضاً طلاب"القوات اللبنانية"الذين وصلوا باكراً ايضاً براياتهم الحزبية وصور الرئيس بشير الجميل وهتافات قديمة تم تجديدها. وانتظروا بدورهم رفاقهم في الجامعات والمدارس. واليهم انضم شباب الحزب التقدمي الاشتراكي الذين وصلوا اما سيراً على الاقدام من مؤسسات تربوية قريبة او بواسطة الحافلات التي اقلتهم من الجبل والشوف، جاءوا على دفعات وسبقتهم الى المكان زوجة رئيس الحزب نورا وليد جنبلاط وحولها مجموعة من السيدات اللواتي ارتدين مثلها اللون الاسود ورحن يساعدنها في تنظيم أرادته من دون شائبة للمسيرة. في البداية حافظت المجموعات المنتظرة على كياناتها وراحت كل واحدة تردد هتافاتها الخاصة، لكن هتافات العونيين طاولت الشعب السوري فتقدم شاب من الحزب التقدمي يطلب منهم بأن يهتفوا"بما يمكن ان نقوله جميعنا بلا شتائم ولا اساءة الى الشعب السوري لأنني شخصياً لن ارددها معكم لكنني بالتأكيد سأهتف لخروج السوريين من لبنان". فأسقطت الحناجر هتافاً او اثنين من"حساباتها"وابتكرت ما يمكن ان يكون مشتركاً. ورددت الجموع"بدنا الثأر بدنا الثأر"،"هي هي الحرية وحدها وحدها القضية"و"يلي اغتالك يا رفيق من مدرسة السورية"و"لما قال الحقيقة اغتالته الشقيقة". كان المشاركون في المسيرة يأتون الى المكان من كل الطرق المؤدية الى محيط ال"فينيسيا"، وكان ثمة شبان وشابات يوزعون على القادمين مناديل برتقالية وأخرى حمر وبيض لربطها حول الاعناق والرؤوس للدلالة الى المعارضة، وثمة من كان يوزع ازهار التوليب الحمر والورود لوضعها في نهاية المسيرة على ضريح الحريري. الحشد كان يتضاعف مرة ومرتين ... وعشرات المرات وراح المكان يضيق بهم وبشعاراتهم، ولم يقتصر الحضور على الطلاب، كان هناك موظفون ومديرو مؤسسات وأطباء ومهندسون وأساتذة ومثقفون من كل الاعمار والطبقات وان شكلت الطبقة الوسطى الحضور الاكبر بعد غياب. وحينما كان البعض يتعب من رفع الرايات او اللافتات كانت نورا جنبلاط له بالمرصاد:"لماذا هذه اللافتة على الارض من لا يريد رفعها عليه ألا يأتي الى المسيرة", هكذا بقيت اللافتات مرفوعة، وعليها يمكن قراءة:"مسيرة المقاومة مشيناها ولن نهادن حتى التحرير"، و"سيأتي يوم محاسبة العملاء ولو في القبور"و"شهداؤنا لا يموتون"والتوقيع بأحرف ضخمة ل"مصلحة طلاب القوات اللبنانية". وكانت اللافتات الاكثر تكراراً وبكل الاحجام تلك التي احضرها محازبو"التقدمي"، لافتات حمر كتب عليها باللغات العربية والانكليزية والفرنسية"الاستقلال 05"وذيل بجملة"كلنا للوطن"، ولافتات اخرى منها"ارحلوا عنا، كفانا دماً، كفانا قتلاً"، و"ليذهب نظام الخزمتشية الخدم الى الجحيم"و"لتسقط حكومة الدمى". وحمل احدهم مكنسة وألصق اليها لافتة كتب عليها مكنسة عسس المخابرات"، وأحضر شبان التقدمي مكتب الشوف لافتة ضخمة كتبوا عليها"الجراد شبع متى تشبعون، الجراد رحل متى ترحلون؟"وحمل طلاب ثانوية بعقلين لافتة"نكون او لا نكون". كان الحشد يتضاعف بعد انضمام طلاب من جامعات الانطونية وسيدة اللويزة والاميركية واللبنانية - الاميركية واليسوعية والعربية وطلاب من فروع اولى وثانية للجامعة اللبنانية وفروع في الجبل، وثمة لافتات دلت الى اصحابها من"هيئة قضاء البترون"ومن عرسال في البقاع التي قال احد ابنائها"ان اهل البلدة زحفوا الى بيروت لمشاركة اهلها حزنهم على الحريري وصوره علقناها في منازلنا وأمامها ولا يزال بضعة اشخاص موقوفين لدى الدولة لأنهم تظاهروا في اليوم الثاني لاغتيال الحريري مطالبين بخروج القوات السورية من لبنان". لم تكن المسيرة تحركت بعد في انتظار"تيار المستقبل"الذي كان انصاره آخر الواصلين برايات سود وصور للرئيس الشهيد وهتافات منها"توت توت طلعوا من بيروت"و"مهما صار وبدو يصير نحن حددنا المصير، بدنا نحكي عالمكشوف حكومة ما بدنا نشوف"، و"أي ويللا سورية طلعي برا". وثمة المئات من المشاركين في المسيرة الذين جاءوا في شكل عفوي فقال بضعة شبان"جئنا من برج حمود، تركنا اشغالنا لنشارك"، وقالت سيدة مع مجموعة اخرى"نحن من الاشرفية جئنا من اجل لبنان كله". وقالت سيدة اخرى انها سارت من الحازمية مسافة طويلة قبل ان تجد من يقلها الى مكان المسيرة. وقال شخص انه جاء وعائلته من بعلبك وتحديداً من حي القلعة"لنحيي الرئيس الحريري وقد علقنا صوره في مدينتنا". بدا غضب الجموع اكبر من غضب قياداته التي حضرت كتلاً نيابية وشخصيات حزبية وراحت تنظر الى الحشود بعيون غير مصدقة بل قلقة. وكانت القيادات تتحرك كمجموعة متراصة وبعضهم احضر الزوجات، وكان يمكن رصد كتلة قرار بيروت واللقاء النيابي الديموقراطي وحركة التجدد الديموقراطي والنواب فارس بويز ونعمة الله ابي نصر ومخايل الضاهر وفريد غصن ولقاء قرنة شهوان وحضرت ايضاً زوجة رئيس الجمهورية الاسبق جويس امين الجميل الى جانب ابنها النائب بيار الجميل وحضرت زوجة الرئيس الراحل بشير الجميل صولانج الى جانب ابنها نديم الجميل، واصطحبت النائب نايلة معوض ابنها ميشال. وحضر الى المكان رئيس حزب الوطنيين الاحرار دوري شمعون وشخصيات من اليسار الديموقراطي. وفيما كانت اغنية مرسيل خليفة"يا بحرية"التي تتردد عبر مكبر للصوت تثير حماسة المشاركين في المسيرة، كانت هتافات من نوع آخر تثير مشاعر آخرين، وقد استعار تيار"المستقبل"كلمات كانت كتبها الرئيس الحريري نفسه وحولها تلفزيون"المستقل"قبل سنوات الى اغنية عن مسيرة الإعمار تقول"البلد ماشي والشغل ماشي"فأضاف اليها الهاتفون و"السوري ماشي". كانت الساعة الواحدة حينما قرر المشاركون في المسيرة الانطلاق ولم تفلح الدعوات الى دقيقة صمت حداداً على الحريري في اسكات الجموع ثانية واحدة. ساروا في اتجاه برج المر ثم في اتجاه ساحة رياض الصلح عبر الجسور مروراً ببيت الأممالمتحدة حيث كان من المقرر تسليم المسؤولين فيه رسالة الى الامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان للمطالبة بكشف مرتكبي جريمة اغتيال الحريري وكانت القوى الامنية المواكبة للمسيرة مقتصرة على عناصر من سرية السير في شرطة بيروت فيما تراجع عناصر الجيش في ساحة رياض الصلح وقوى الامن الى الطرق الفرعية تاركين للجموع حرية العبور والهتاف بحرية في اتجاه ساحة الشهداء. الحشود تداخلت عند ساحة رياض الصلح مثلما تداخلت عند ساحة الشهداء وتحديداً امام ضريح الحريري فامتدت الجموع في كل الاتجاهات وتدافعت وكاد المشهد يكرر نفسه يوم جنازة الرئيس الحريري ومرافقيه، علا آذان المسجد مثلما علت اصوات اجراس الكنائس التي دقت بحزن وكاد الهتاف يصير واحداً"Syria Out"ولو باللغة الانكليزية تكرره الحناجر ولا تتعب، وأمام الضريح راح البعض يتلو الفاتحة وآخرون يهتفون للتعايش الوطني، وحرض احد المنظمين من خلال مكبر الصوت على القول للجموع"كل واحد يصلي على طريقته يا شباب". وفيما استراح البعض تحت الخيم المنصوبة امام الضريح، واصلت مجموعات اخرى هتافاتها وكان يمكن سماع"جنرال"و"حريري"و"براءة جعجع براءة"، لكن الهتافات التي ظلت تلهب الجميع تلك التي"ما بدنا كعك بلبنان الا الكعك اللبناني"و"ما بدنا جمهورية تحت الجزمة السورية"، و"يا حكومة استقيلي". وسيارة الاطفاء التي اعتاد المتظاهرون تجنبها في مسيرات سابقة استراحت عند اعتاب نصب الشهداء وصعد اليها المصورون يلتقطون بكاميراتهم مشهداً نادراً عبر عنه احد الشبان حين حمل المذياع وراح يقول"هذه ساحة الحرية وسنعتصم كل يوم من اجلها".