رحل قبل أيام الباحث والأكاديمي عز الدين إسماعيل بعد مسيرة طويلة من الإبداع النقدي. أثرت كتبه المكتبة العربية، وفي مقدمها "قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر"، وپ"الشعر العربي المعاصر في اليمن"، وپ"الشعر القومي في السودان"، وپ"المكونات الأولى للثقافة العربية"، وپ"عشرون يوماً في النوبة"، وپ"المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي"، وپ"التراث الشعبي العربي في المعاجم اللغوية"، وپ"الشعر قيمة حضارية"... إضافة الى أعماله المرجعية التي تتلمذ عليها كثر ومنها:"الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية"وپ"الأدب وفنونه"وپ"كيف تقرأ النص العربي"وپ"التحليل النفسي للأدب". وشغل اسماعيل مناصب عدة، فكان عميداً لكلية الآداب في جامعة عين شمس وأستاذاً للأدب العربي في جامعات عربية عدة، ورئيساً للهيئة العامة للكتّاب، وأول رئيس لتحرير مجلة"فصول"النقدية، والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة عام 1982. وهو أحد النقاد الكبار الذين أثروا الجدال التاريخي حول علاقة الحداثة بالتراث، خصوصاً في الشعر العربي الذي كان فيه تلميذاً على طه حسين. ويعد اسماعيل من أهم تلامذة عميد الأدب العربي في مجال النقد إلتزاماًَ بما كرسه الرائد في الدعوة الى تجديد الرؤي النقدية لتاريخ الأدب العربي. ولد الناقد الراحل في 29 كانون الثاني يناير عام 1929 ومثّل هكذا أنموذجاً للرعيل الثاني من أبناء الجامعة المصرية وقد حصل علي ليسانس الآداب من جامعة القاهرة نهاية الأربعينات وانتقل في دراسته الجامعية العليا إلى جامعة عين شمس أوائل الخمسينات، وعرف منذ بداياته مدافعاً أصيلاً وناقداً حداثياً - بمعايير تلك الفترة - لذلك الطور الجديد من تطور الشعر العربي ممثلاً في قصيدة التفعيلة، حيث باشر باستخدام أدوات نقدية جديدة ترتب أوضاع تلك القصيدة داخل مسيرة تطور الشعر العربي، فقد عرف عنه ذلك الجهد الأكاديمي البارز في إخضاع قراءة التراث العربي لمناهج البحث النقدي التي شاعت بعد فتح الرائد طه حسين لنافذة القراءة السياقية الاجتماعية والسياسية لهذا التراث، فكان عز الدين إسماعيل وفياً لذلك المنهج خصوصاً مع ما توافر له من اطلاع على مدارس النقد الغربي المتشكل في هذا العصر وإن بقي مخلصاً لمحاولة العبور بتلك الآليات التحليلية إلى سياق قراءة الأعمال الكلاسيكية القديمة لهذا التراث، وتمثل هذا النمط من العبور النقدي المفارق إلى شطآن جديدة في عمليه"المكونات الأولى للثقافة العربية"وپ"الشعر العربي المعاصر"، وإن ظل في ذلك العبور مخلصاً لتراث كل المدارس التوفيقية. يكتب:"ليس المجدد في الشعر إذن من عرف الطيارة والصاروخ وكتب عنهما، فهذه في الحقيقة محاولة عصرية ساذجة، فالشاعر قد يكون مجدداً حتى وهو يتحدث عن الناقة والجمل". ورداً على اتهامات كثيراً ما صاحبت القصيدة الجديدة متهمة إياها بالغموض، كتب: إن الشعر الجديد يمثل اتجاهاً جمالياً يختلف عن اتجاه الشعر القديم، بل ربما وقف منه موقف النقيض، وربما حاول الجادون أن يتغلبوا على تلك الصعوبة بأن يكيفوا أنفسهم وهذا الاتجاه الجديد، لكن كثيراً ما يقف حائلاً دونهم وهذا التكيف خاصية في الشعر الجديد ومقوم من مقومات وجوده، وأعني بذلك غموض هذا الشعر ونراه يعيد هذا الغموض إلى أربعة أسباب: الأول إن الغموض في الشعر خاصية في طبيعة التفكير الشعري وليس خاصية في طبيعة التفسير الشعري وهي لذلك أشد ارتباطاً بجوهر الشعر وبأصوله التي نبت منها. ويمكننا أنْ نَتَبيّن هذا إذا نحن رجعنا إلى نظرية قديمة ترجع أصولها إلى فيكو - هوجيوفاني باتيستا 1668 - 1744 هو فيلسوف إيطالي حاول تطبيق المنهج العلمي على دراسة التأريخ - تقول: إن الإنسان يُشكِّل أفكاراً خيالية قبل أن يشكِّل أفكاراً عامة، وأنه يدرك الأشياء إدراكاً مهوشاً قبل أن يصل إلى مرحلة التفكير في هذه الأشياء تفكيراً منظماً، وأنه يُغنِّي قبل أن يقول كلاماً محدد المقاطع، وأنه يقول الشعر قبل أن يعرف النثر، وأنه يستخدم الاستعارات قبل أن يستخدم الألفاظ الاصطلاحية، وأن استخدامه للألفاظ استخداماً استعارياً هو بالنسبة إليه شيء طبيعي. وهذا التشكيل الشعري يعتمد الخيال، وبالتالي فإن الخاصية الأولى للشعر هي أن يجعل غير الممكن قابلاً للتصديق وهذا غموض. السبب الثاني، إن الغموض في الشعر لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد صفة سلبية، أي على أنه فشل من جانب الشاعر في الوصول إلى حالة الوضوح التام، وإنما هو صفة إيجابية، بل أكثر من هذا هو مجموعة كاملة من الصفات الإيجابية فبعيداً من قيم الألفاظ الصوتية الصرف، التي لا تحمل معنى، وبعيداً من سحرها اللاعقلي، أي عَمّا لها من قوة التعويذة السحرية، نجد غموضاً جوهرياً في عملية التفكير الضمنية، وهو غموض يرجع إلى أمانة الشاعر وموضوعيته. السبب الثالث، الغموض ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد، وإنما هو خاصية مشتركة بين القديم والجديد على السواء، وكل ما في الأمر هو أن الغموض صار ظاهرة واضحة في الشعر الجديد تدعونا إلى التأمل، فلا يمكن أن تكون المسألة في هذا الشعر عدولاً معتمداً عن الوضوح إلى الغموض، ولا يمكن أن تكون كذلك مجرد رغبة من الشعراء في إرضاء ذواتهم من طريق إغاظة متلقي الشعر بوضعه في إطار من الطلاسم التي تعصى على الفهم كما كان المتنبي يصنع أو غيره من شعراء الشعر القديم- السبب الرابع، ان الشاعر في حاجة إلى عمق التجربة أكثر من حاجته إلى التفصيل، وكلما قَلّتْ تفصيلات الحالة الشعرية زاد تأثيرها المباشر. يكتب:"كثرة التفصيلات لا تترك عملاً للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها. ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيراً شعرياً، وحياة الألفاظ الطويلة وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتأريخي وأسطوري، كل ذلك يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية، والغموض أو التعقيد، مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز. فالمجاز في جوهره يمثل هذه العملية غير المنطقية وغير المعقولة التي هي أثر من آثار الخرافة"... ولذا تراه يؤكد ميله نحو الغموض:"إن الشعر الجديد يتسم في معظمه بخاصة في أروع نماذجه بالغموض". وعلى رغم تلك المواقف الخاصة من جماليات الشعر وعلاقته الفعالة بالنصوص الجديدة، إلا أن مواقفه تلك لم تمتد الى نصوص أخرى، فنتذكر جميعاً ونحن من طلابه مواقفه من قصيدة النثر، إذ بقي عز الدين إسماعيل وسطاً في تفاعله مع روح الكتابة الجديدة وكتابات جيل التسعينات، مندمجاً في ذلك مع موقف عبدالقادر القط كان يرى الجيل الجديد جيلاً متأثراً بالقصائد المترجمة، وهو ما اعتبره خروجاً على معيار تذوق الشعر في لغته أو كما أكد في أحد أعماله:"إنَّ الشعر غير قابل للترجمة، لأنه إنما كان شعراً في لغته وبلغته، ولغته قيمة غير منفصلة عنه. وفردية اللغة لا تسمح بنقلها إلى لغة أخرى نقلاً مساوياً كما هو الشأن في اللغة العلمية ذات الصبغة العامة". كانت رحلته النقدية كافية لنا لنتابع باحثين وشعراء وقراء اكتشافنا عالم النقد الحديث. وميّزه الى ذلك كله وعيه النسبي الليبرالي الذي يخالف من دون تكفير ويناقش من دون تجريم. وميّزه شخصه فقد بقي عصياً على التطويع السياسي، وبقي أكاديمياً زاهداً بنفسه وعلمه عن ترجمة إشارات السلطة -