تلعب اللحظة التاريخيّة التي تقرأ فيها صنيعاً أدبياً، كتاباً كان أو مجلّة، دوراً معتبراً في تلقّيه وتمارس على تذوّقه أثرها الواضح. قرأتُ بعض أعداد مجلّة"شعر"في صباي في العراق، ثمّ قرأتُ أعدادها الكاملة لدى أوّل وصولي باريس في منتصف العقد السبعينيّ من القرن المنصرم. ورائي كان المعترك الأيديولوجيّ الذي أثير حول المجلّة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلّق بما يشبه امتداداً لنظريّة"الفنّ للفنّ"بدت المجلّة وهي تشيعه منذ عددها الأوّل. كان ثمّة ولا شكّ الكثير من السّذاجة إن لم يكن الأمر صادراً عن اختيار هو نفسه أيديولوجيّ في هذه الحرب التي خاضتها المجلّة من أجل شعر لا تتمثّل غايته إلاّ في نفسه. فالشعر، ونقول هذا باستعجال يمليه ضيق المجال، لم يكن مفصولاً يوماً عن هواجس البشر وصبوات الإنسان. والشكل الشعريّ الأرقى لا يتمتّع بأدنى فرصة للتأثير ما لم يرتبط بمضمون، ومن أين تأتي المضامين إن لم تأتِ من آمال الفرد أو الجماعة ومعيشهما المعتكر الصّاخب؟ ورائي، إذاً، كان ذلك الصّراع السياسيّ وردود الأفعال المتباينة. وما حملته لي المجلّة، في فترة لم أجد فيها بعدُ طريقي إلى القراءة بأيّة لغة أجنبيّة، هو شيء مختلف، غريب بالمعنيين، غربة الأجنبيّ وغرابة الجديد، نافذة إلى أصوات أخرى تهدر في العالم العريض بلغاتٍ شتّى. هكذا كانت الأبواب المتعلّقة بالترجمة، مِن نقل منتخبات شعريّة إلى التعريف بالشعراء الأجانب، هي ما اجتذبني في المجلّة أكثر من سواه إن لم أقل دون سواه. وعلى ما يقدر المرء أن يتقدّم به الآن من آراء وتصويبات في ترجمة المجلّة لهذا الشاعر أو ذاك، فلم يكن بالشيء الهيّن أن تقرأ تلك"البورتريهات"الوجوديّة والفنيّة، الموجزة والعميقة، للشعراء. لا وما كان بالشيء العديم الدلالة أن تجد بين يديك ترجمات يجهد أصحابها في صياغتها موسيقيّاً، بالإفادة من أدائيّات قصيدة النثر العربيّة أبيات مفصولة بلا عروض، بدل أن تقتصر على ترجمة المعنى. وإلى الآن أحتفظ ب"طعم"بعض هذه القراءات، وأتذكّر الرجّة الفنيّة التي حصلت لي وأنا أقرأ بالعربيّة آرتو وهو يصرّح أنّه"لم يعد من مريء / ولا من معدة"، وأنّه انتهى أخيراً إلى تشكيل جسد بلا أعضاء، أو أبولينير وهو يقول لبرج إيفل الذي ينعته هو ب"الرّاعي":"قطيع الجسور يثغو هذا الصّباح"، أو رينيه شار وهو يقلّب بعض"صحائف هيبنوس"، أو لوركا وهو يهتف في رثاء صديقه مصارع الثيران أغناثيو سانتشيث مخيّاس:"كانت الخامسة بعد الظّهر في جميع السّاعات". شاعر عراقي