تنطوي باكستان على جزئيات متنافرة بشكل عجيب ومزعج، ففيها العسكر القابضون على عنق السلطة، وأسلحة نووية وما يتصل بها من تكنولوجيا متقدمة جاهزة لتقديمها لمن يقدر على ثمنها الباهظ، وفي الجوار جماعات وأحزاب تقاتل باستماتة، لأجل إقرار نظام ديموقراطي يكتب له البقاء والحياة في وطن يتقلب كرسي السلطة فيه بين المدنيين والعسكر، مثل تحريك قطع الشطرنج على الرقعة من موقع لآخر. وفي المعية تأتي تنظيمات وتشكيلات متشددة تعتمد الإرهاب وسيلة لنشر أفكارها الشاذة الغارقة في الظلامية، وأصبح عاديا العثور على صلة لجماعة باكستانية بالهجمات الإرهابية الكبيرة في العواصم الغربية في الأعوام الفائتة. وتتشابك أطراف اللغز الباكستاني أكثر بالإشارة الى واقع أن إسلام أباد لم يعد في مقدورها الخروج من"لعبة الأمم"المنخرطة فيها منذ زمن الحرب الباردة، بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان المجاورة، وتحول الأراضي الباكستانية لقاعدة أمامية لعمليات ومغامرات أجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية، لإنهاك وإضعاف السوفيات وإخراجهم من أفغانستان مدحورين يجرون أذيال الخيبة والهزيمة النكراء، ووقفت واشنطن آنذاك بقوة خلف نظام الرئيس الراحل الجنرال ضياء الحق لهذه الغاية. وكأن التاريخ يعيد نفسه، إذ تدعم أميركا في وقتنا الحاضر جنرالا آخر هو برويز مشرف، حتى يظل رئيسا للبلاد لحاجتها إليه كحليف مناصر لحربها ضد الإرهاب، بعد أن كانت رافضة لاغتصابه الحكم في انقلاب عسكري نفذه العام 1999، وأطاح فيه بحكومة نواز شريف المدنية المنتخبة من قبل الباكستانيين عبر اقتراع حر. هذا التشخيص المفصل كان محتما التذكير به، حتى نقدر على استشراف ما سيحل بباكستان، عقب العودة الدرامية لبينظير بوتو رئيسة الوزراء السابقة، ثم تعرضها لمحاولة اغتيال فاشلة، بعد ساعات قليلة من وصولها، ثم تلاها فرض الطوارئ وما لحق بها من اهتزازات عنيفة للجبهة الداخلية في باكستان. فمن الظاهر أن الولاياتالمتحدة الحريصة على استمرار الجنرال مشرف في سدة الرئاسة، أوزعت للسيدة بوتو بالعودة تنفيذا لصفقة سياسية أعدت تفاصيلها في العاصمة الأميركية، بحيث تستعيد بوتو رئاسة الوزراء مع بقاء مشرف رئيسا ظنا منها بأن هذه الصيغة ستطيل عمر نظام مشرف الذي سيتابع اقتفاء اثر تنظيم القاعدة وأخواتها والقضاء عليهم أن أمكن، بعد محاولتهم اغتيال مشرف قبل يومين من إعلانه الطوارئ. وفي الوقت ذاته تضمن إلا يتولى الرئاسة شخصية تناصبها العداء والكراهية، فباكستان تجسد قاعدة متقدمة للحرب ضد الإرهاب ولا يصح أن تخرج من دائرة حلفائها. تلك الحسابات ينقصها بعد النظر من جهة الإدارة الأميركية ولن تحقق لها ما تصبو إليه. فواشنطن كعهدها يقع اختيارها على وجوه قديمة محروقة، لكي تتصدر الساحة، فعلت هذا في العراقوأفغانستان وغيرهما، وليست هناك حاجة لاستعراض ما جري لهذه الدول. فالسيدة بوتو ومع كل التقدير لتاريخها وتاريخ أسرتها في العمل السياسي، ليست مفتاح الحل الصحيح لإخراج باكستان من كابوس الفوضى. فبنظرة مدققة في بنود اتفاقها مع مشرف والذي عادت بموجبه لوطنها سنتوصل إلى أنها كلها متعلقة بجوانب شخصية تخص طرفيه وتخدم صالحهما وليس البلد، على سبيل المثال فإن بوتو تريد إسقاط تهم الفساد عنها، ومشرف يبغي أن يحتفظ بكرسيه في قصر الرئاسة، في هذه المعادلة"أين موقع الديموقراطية وعودة الحكم المدني وتداول السلطة وغيرها من المبادئ التي لا تمل واشنطن من مطالبة الآخرين باتباعها والتعلق بأهدابها مهما كانت الصعاب"؟. الطرفان يبحثان عن مجدهما الشخصي، حتى وان حاولا إظهار خلاف ذلك، ثم أن من يرجع إلى فترة حكم بوتو لن يجد صورة وردية يتمني رجوعها، تقارير منظمة العفو الدولية حينئذ صنفت باكستان كواحدة من أسوأ الدول المتهمة بالتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، ومنظمة الشفافية العالمية وضعتها في المرتبة الثانية على لائحة أكثر الدول فساداً وسبقتها نيجيريا. ذاك جزء من كل يصعب حصره تفصيلا، والقصد توضيحه أن بوتو لن تقدم جديدا أن عادت للسلطة والقاعدة تنطبق على مشرف الاشبه برجل يهرب من حكم بإعدامه، بخلافه كونه عبئا تبحث واشنطن عن وسيلة للتخفف منه سريعاً. فلو كان المقصود حقا الصالح العام، لماذا لم توجه دعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل الفرقاء جميعا للنجاة بباكستان مما تكابده، بدلا من قبضة الطوارئ التي ستزيد الحال تأزما؟. ختاماً ليس لباكستان من مخرج سوى تنحية المتخاصمين خلافاتهم الصغيرة والمتسمة بالأنانية المفرطة ومد يدهم لبعضهم البعض لاستعادة الحكم المدني والديموقراطية. * كاتب مصري.