تؤكد الروايات الملتبسة عن وفاة رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بينظير بوتو الحقيقة الأساسية في باكستان. وهي التجاور غير الواضح المعالم بين التطرف والارهاب وبين المؤسسات الأمنية في البلاد. ولن يكون سهلا الفصل في المسؤولية الواضحة لهذا التجاور عن إغتيال بوتو، ما دام حكم الرئيس المدني برويز مشرف امتدادا لحكم الرئيس الجنرال. وما دامت مؤسسة الحكم الباكستاني غير قادرة على الانفصال عن الجيش و"زبائنه"من الاوساط الاسلامية المتشددة والمتطرفة. الرواية الرسمية إتهمت تنظيم"القاعدة"الباكستاني باغتيال بوتو. ورد التنظيم بنفي التهمة والإشادة برئيسة الوزراء الراحلة وإعلان حزنه عليها، متهما بدوره الاوساط الحكومية بالمسؤولية عن الاغتيال. ولن يجهد المحللون لايجاد التبريرارت لكل من الاتهامين. فالتنظيم لن يتردد عن تصفية حسابات كثيرة مع الراحلة. والمؤسسة الباكستانية الحاكمة لديها كثير من الدوافع للتخلص منها. لا بل يمكن القول ان كل عناصر الازمة الباكستانية المعقدة تدفع في إتجاه الرغبة في تحييد إبنة ذو الفقار علي بوتو وإنهاء إرثه السياسي. فالراحلة تمثل، بصورتها وسلوكها، كل ما يتعارض ويناقض احيانا الشائع في باكستان، وعلى كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد مثلت بينظير يوم إغتيالها، في نظر خصومها، المرأة الخطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ. فلم تستطع عبور المرحلة"الانتقالية"من التحالف العسكري الأمني - الأصولي الى إرساء قواعد العودة الى اللعبة الديموقراطية، عبر الانتخابات الاشتراعية المقررة بعد اسبوعين، والتي يبدو حاليا انها أصبحت في مهب إنفتاح الوضع على تناحر اهلي يُضاف الى الحروب الصغيرة المندلعة في المناطق الغربية من البلاد. لقد دفعت بوتو حياتها ثمنا لمحاولة العبور الصعبة وشبه المستحيلة، في ظل تشابك المصالح بين قوى السلطة المناهضة للقوى المجتمعية المدنية الناهضة، وبين القوى الاسلامية المتطرفة والمتشددة المناهضة لكل مساعي إستعادة الدولة لدورها في المجتمع، وهو الدور الذي إنتزعته هذه القوى في الفترات السابقة، ومنذ إنقلاب ضياء الحق على ذو الفقار بوتو. بوتو الأب دفع هو ايضا حياته ثمنا لمحاولة العبور هذه. لم تعد باكستان في نظره، بعدما تحولت نووية، محكومة بالعداء للهند الدولة التي نشأت من رحمها. بات عليها ان تخرج من كونها محمية الى دولة ذات سيادة قادرة على التعامل مع العالم استنادا الى مصالح شعبها. وهذه يقتضي تنوع علاقاتها وصلاتها، خصوصا مع الاتحاد السوفياتي في ذروة الحرب الباردة. لقد رأى ضرورة تغيير الأسس الوطنية للكيان الباكستاني، من اجل ان تصبح باكستان دولة ديموقراطية لها دورها ووزنها. فأطاحه العسكر وأعدمه. لتعود باكستان الى أسس الانسلاخ عن الهند، وما تنطوي عليه من تعزيز لنزعات العداء معها، بصفتها المغايرة قوميا ودينيا. وجاء الغزو السوفياتي للجارة افغانستان ليطلق العنان لهذه النزعات مدعومة بمليارات الدولارات لمواجهة هذا الغزو الذي اعتبرته الولاياتالمتحدة المناسبة المثلى لكسب الحرب الباردة. وبات الحكم في باكستان، والذي شاركت فيه احيانا بينظير بوتو وخصمها نواز شريف ايضا، يستند كلية على هذا التحالف الأمني - الأصولي. لكن الاصوليين، سواء في افغانستان او باكستان، لن يظلوا وقودا للحرب. وحان موعد قطاف إستثمارهم فيها. وكانت الحرب الاميركية على الارهاب احد وجوه هذه النتائج. ولم يعد الحساب السابق يلائم الظروف المستجدة، فبات الحكم الباكستاني مضطرا الى مواجهة مع اصولييه. ولأن موجبات المواجهة تفترض إستقطاب قوى مدنية جديدة الى المواجهة، كان الضغط الاميركي الهائل على بينظير من اجل العودة من المنفى والمشاركة في الحكم. لكن اغتيال بوتو في مهرجان إنتخابي يظهر مدى الفشل الاميركي في قراءة الوضع الباكستاني الحالي. ويظهر ان مجرد الرغبة في إقامة واجهة ديموقراطية لا يمكن ان تلغي عقودا من التحالفات والتراكمات كان هدفها بالضبط منع نشوء قرار سيادي للشعب وقرار مستقل للدولة. لقد دفعت بينظير ايضا حياتها ثمنا لهذا الفشل الاميركي.