الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف يمتلك - إذا شاء - خيار أخذ زمام المبادرة الى إنقاذ باكستان من الفوضى والاضطراب وإنقاذ سيرته الشخصية والتاريخية مما لحقها من تلويث نتيجة مغامراته الأخيرة على حساب العملية الديموقراطية. فهو رجل ذكي قادر على التفكير بتجددية وواقعية و"خارج الصندوق"، أي بغير الأنماط المعهودة في التجربة الباكستانية. وهو في وضع يمكّنه من الاحتفاظ بنفوذه في مستقبل بلاده، بتقدير محلي وعالمي، بدلاً من احتمال دفعه تدريجاً رغماً عنه بعيداً عن السلطة بغضب شعبي واستياء الحلفاء والأصدقاء والأعداء على السواء. مفتاح ذلك هو التفكير بحكومة وحدة وطنية مكونة من تكنوقراطيين كنقطة انطلاق الى عملية تغيير سياسي جذري في باكستان بحيث تكون المؤسسة العسكرية حارس الدولة الأساسي، فيما تتحرر العملية السياسية من حكم ومعادلة إما الاقطاعيين أو العسكر. يمكن للجنرال مشرف أن يتمسك بالبزة العسكرية التي قال مرة عنها إنها طبقة ثانية من جلده، إذا اتخذ قرار التنحي عن الرئاسة. ويمكنه أن يخوض الانتخابات لاحقاً بعد أن يكون لعب دور عرّاب العملية السياسية الجديدة، إذا كان اتخذ قرار خلع البزة العسكرية. ما لن يكون ممكناً له بعد الآن هو أن يستمر في الاحتفاظ بلقب الرئيس الجنرال لولاية أخرى. فلقد عبر مشرف خطوطاً خطيرة في الساحة الباكستانية الداخلية وعلى صعيد العلاقة الباكستانية مع الغرب وبالذات الولاياتالمتحدة التي أعطت باكستان 10 بلايين دولار منذ الحرب على الإرهاب عام 2001. فهو زج القيادات الغربية وبالذات الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في زاوية الإحراج والاضطرار الى الاختيار. وهو ساهم في اطلاق ضجيج الغضب المرعب على الصعيد الشعبي. وهو ساهم في تسليط الأضواء على المؤسسة العسكرية الباكستانية ذات الأطياف العديدة. وهو، لربما، أعطى شبكة"القاعدة"وأمثالها الانطباع بأن هذه فرصة لها لإحياء"شعبيتها". وهو أطلق ضده حلفاً من القضاة والمحامين ودعاة حقوق الانسان والإعلاميين والطلاب والأساتذة الجامعيين. ولذلك ليس أمام برويز مشرف الآن سوى التفكير"خارج الصندوق"لإنقاذ نفسه ولحماية باكستان من الانفجار. وهذا يتطلب من القيادات الدولية المهمة تجنّب إحراجه علناً وإعطاء كل دفع وتشجيع لاتخاذ المنحى الجديد بعزم وبالتزام. هذا يعني ان على هذه القيادات أيضاً التفكير"خارج الصندوق"بغير معادلة إما الخضوع أمام ما يمليه برويز مشرف لأن لا مجال للاستغناء عنه، أو تحديه بصورة تطلق عنان المفاجآت. المؤسسة العسكرية الباكستانية تجسّد أخطر تزاوج بين تطرف الحكم العسكري والتزمت الديني المتطرف وتحكم بمزيج من الطمع والفساد، وهي تجلس على أسلحة نووية في بلاد متوترة، أكثر من مئة مليون من شعبها فقير وشبه أميّ. انها مُختَرَقة بأيديولوجيين متطرفين يكرهون الغرب، وبالذات الولاياتالمتحدة، كرهاً عميقاً، ويودون إحياء مساعداتهم للمجاهدين و"طالبان". المؤرخون يعزون العلاقة المقربة بين"طالبان"وغيرها من الاسلاميين المتطرفين وبين الجيش الباكستاني الى الثمانينات في عهد الجنرال ضياء الحق الذي أطلق حملة"أسلمة المجتمع الباكستاني والقوات المسلحة تحديداً"، كما كتب الصحافي والكاتب محمد حنيف في صحيفة"نيويورك تايمز". يقول إن خريجي أكاديمية التطرف الاسلامي حينذاك هم اليوم الضباط الذين يديرون البلاد"والجنرال مشرف يرأس هذا الجيش، وهو متردد جداً في التخلي عنه"، ليس فقط لأسباب ايديولوجية وانما أيضاً لأن القوات المسلحة تحت قيادته أصبحت"امبراطورية"مصالح ممتدة من البنوك الى الأسواق. ويضيف حنيف ان الجنرال مشرف يتعمد تكوين الانطباع لدى الغرب بأنه وحده القادر على الحفاظ على تماسك البلاد ويزعم أن بعده ليس هناك سوى الاضطراب والفوضى، فيما واقع الأمر هو أن في زمن زج المحامين والمعلمين وراء القضبان فيما الانتحاريون أحرار"علينا بكل تأكيد إعادة تعريف معنى الفوضوية". جورج دبليو بوش أثناء لقائه الصحافة اول امس الاربعاء سوية مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، رد على سؤال حول مشرف باستياء واضح من الجنرال الباكستاني. قال انه اتصل هاتفياً معه"وكانت رسالتي له واضحة وسهلة الفهم. ومفادها ان الولاياتالمتحدة تريد منك تنظيم الانتخابات في موعدها، وأن تنزع بزتك العسكرية"، أي ان يتخلى عن منصبه كقائد للجيش. في اليوم ذاته أعلن مساعد وزيرة الخارجية جون نيغروبونتي أن واشنطن لا تملك خياراً آخر غير الوفاء بالتزاماتها إزاء باكستان على رغم اعلان مشرف حال الطوارئ في البلاد،"ولا يمكننا العودة الى الجفاء". وجدد نيغروبونتي ما سبق وقاله بوش إنه يعتبر مشرف حليفاً"لا يمكن الاستغناء عنه"في الحرب على الإرهاب. وتابع ان"الشراكة مع باكستان وشعبها هي الخيار الوحيد"للولايات المتحدة. مثل هذا التوازن في الضغوط والتطمينات في أقوال بوش ونيغروبونتي مهم وضروري، فليس مفيداً الارتماء في التخويف من الفراغ إذا غادر برويز مشرف مناصبه لدرجة التصديق كأمر واقع، على تجاوزاته للأعراف الدستورية وتجنب مواجهته بحزم. وليس صحياً على الاطلاق أن تكرر الولاياتالمتحدة الأميركية أنماط الاستغناء بما يكرّس سمعتها بأن لا صديق لها وهي جاهزة دوماً للغدر والاستغناء. انه لخيط دقيق على واشنطن ان تسير عليه بكل حذر ودقة. وأفضل ما يمكن لها أن تقوم به هو ايجاد وسيلة لابلاغ الرئيس برويز مشرف أن زمام المبادرة في يديه لصنع التاريخ لباكستان ولنسج سيرة ذاتية له شخصياً في الوقت ذاته. والوسائل متاحة لدى واشنطن للتأثير والنفوذ لدى مشرّف، انما عليها التحلي بالكثير من الحكمة كي لا"تهين"الجنرال مشرف وتطلق، سهواً، غضب المؤسسة العسكرية بجزئها الغاضب من القانونيين، وجزئها الذي يكّن الكراهية النابضة للولايات المتحدة، وجزئها الرافض لكل ما تمثله رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو وعهدها. بنازير بوتو قد لا تكون بمستوى ذكاء ودهاء برويز مشرف لكنها تحسن حشد الجماهير والاستفادة من الفرص المتاحة وأخطاء الآخرين. قد لا يأتي أي من هذا عليها بالأصوات الضرورية لانتخابها لمنصب رئيسة الوزراء - إذا وعندما تم اجراء انتخابات - وذلك لأسباب ذات علاقة بتاريخ حكمها والفساد الذي اقترن بزمن حكمها، بالذات عبر زوجها الشهير باقتطاع النسبة المئوية العالية لجيبه. لكن بوتو جاهزة للبناء على اللحظة الحاملة بالمفاجآت، لذلك عادت الى باكستان لتقف في خندق القانونيين الذين يحاولون الانقلاب على الرئيس الجنرال مشرف. الجيش ليس معها، والبلاد لا تثق بحكمها، انما بنازير بوتو جاهزة للمفاجأة. تقنياً، ان عودة بنازير بوتو الى الحكم تتطلب تغيير الدستور الذي لا يسمح الآن بولاية ثالثة لرئيس وزراء. يمكن لبوتو القول إن الحكم العسكري هو الذي غيّر الدستور ليمنعها من ولاية ثالثة. انما عملياً، ان توليها المنصب يتطلب تغيير الدستور مرة أخرى. رأي بنازير بوتو، كما عبرت عنه في مقالة في صحيفة"نيويورك تايمز"يوم الاربعاء، هو أن باكستان تحكمها اليوم"ديكتاتورية عسكرية"تواطأت مع"الهيئات الاستخباراتية"من أجل تعليق الدستور وتأجيل الانتخابات الى أجل غير مسمى. وصفت اجراءات برويز مشرف يوم الأحد الماضي بأنها سجلت"اليوم الأكثر سواداً"في تاريخ باكستان. قالت إن على الولاياتالمتحدة أن تبلغ الجنرال مشرف أنها لن تقبل بالقوانين العرفية وأنها تتوقع منه أن يجري الانتخابات الحرة والعادلة بمراقبة دولية في غضون 60 يوماً، وأن عليها أن تضعه أمام الخيار: الديموقراطية، أو الديكتاتورية والعزل. وصفت الأكثرية الباكستانية بأنها معتدلة وأعربت عن أملها بأن يتحد المعتدلون"لتهميش الديكتاتوريين والمتطرفين من أجل إعادة الحكم المدني الى الرئاسة ومن أجل اغلاق المدارس السياسية - تلك المدارس الاسلامية التي تكدّس السلاح وتدعو الى العنف". مشكلة باكستان أنها باتت دولة ذات نظام ديني يحكمه العسكر. بذلك أنها تجسد أسوأ كابوس لصفوف الاعتدال اينما كان: دولة فاشلة يتحكم بها العسكر بتطرف ديني، شعبها أمي بمعظمه، فقير، قابل للاختراق والاستغلال، وهي تملك القنبلة النووية. تركيا تمثل النموذج المضاد لنموذج باكستان. في تركيا، الجيش علماني يقوم بمهمات حراسة البلاد فيما المؤسسة السياسية تمارس الديموقراطية للتنافس على السلطة بموجب الدستور والعمليات الانتخابية. فحيث فشل الرئيس الجنرال برويز مشرّف، تمكن رئيس الوزراء طيب أردوغان من الانتصار بحذاقة أتت إلى الحكم المدني بإسلاميين معتدلين زوجاتهم محجبات إنما سياساتهم منفتحة نسبياً. برويز مشرّف لم يغلق المدارس الدينية، فيما كان، وما يزال، ينصب نفسه. لم يمكّن المؤسسات المدنية فيما كان وما يزال يزعم الديموقراطية. فشله في بناء المؤسسات المدنية هو أيضاً فشل للولايات المتحدة، وبالذات إدارة جورج دبليو بوش، التي فاتتها مراقبة العملية الديموقراطية، فيما كانت غارقة إلى أخمص قدميها في تلك"الحرب على الإرهاب". بذلك، فعلت الولاياتالمتحدة ما تفعله دائماً: فاتتها المراقبة. ما يقوله باكستانيون يعرفون أجواء البلاد هو أن الشعب يريد الآن مجرد حكومة نزيهة ويريد قيادة تكف عن امتصاص ثروة البلاد من أجل اغناء الثروات الخاصة. يقولون إن باكستان عانت من"خيارات فاشلة متتالية". يقولون إن بنظير بوتو"لا تعرف كيف تدير البلاد، إنما تعرف كيف تدير حملة انتخابية"بصفتها"أميرة القوة الشعبية". يقولون إن بعض المحامين يأخذ نفسه ببالغ الجدية، وبعضهم أصبح طموحاً سياسياً بسبب تسليط الأضواء. وهم يحذرون من الصفقات العابرة، فيما ما تحتاجه باكستان الآن هو"عملية ديموقراطية مدنية"بعدما أثبت الحكم الأمني أنه غير قادر على الحكم في نهاية المطاف. يقولون إن لا حاجة إلى خليفة للجنرال برويز مشرّف يكون جنرالاً آخر"ديكتاتورياً / ديموقراطياً"مصغراً له. إن الحاجة هي الى حكومة وحدة وطنية وبرنامج زمني يقود إلى الانتخابات. ولكل هذا، فإن برويز مشرّف جزء من المستقبل وليس فعل ماضٍ بعد. إن الأمر عائد إليه لايجاد الوسيلة لتنفيذ وعود الماضي، الآن. برويز مشرّف جزء من العلاج إذا شاء أن يكون هناك علاج. لكنه ليس الحل البعيد المدى بمفرده. المبادرة في يديه الآن ومن الضروري تشجيعه. إنما المستقبل ليس أبداً ملكاً له وحده، إذا أخفق في التفكير"خارج الصندوق"أو حالاً.