كتب يوسف إدريس قصته القصيرة الطويلة "السيدة فيينا" في حزيران يونيو 1960، ويلفت عنوانها الاهتمام إلى دلالتها الأولية في سياقات التناص، فالعنوان دال بذاته على علاقة نصية بأغنية أحمد رامي التي غنتها أسمهان"ليالي الأنس في فيينا"، أقصد إلى علاقة تتحول فيها فيينا المجاز المرسل الذي يختزل أوروبا في علاقة بعضية، تجسدها فيينا المدينة التي تغدو مثالاًَ لغيرها من المدن الأوروبية، فتغدو امرأة بمعنى من المعاني الرمزية، وذلك اتباعاً للتقاليد الشعرية المتوارثة التي يتم تشبيه المدينة فيها بالمرأة وكان ذلك هو الأساس في توسيع الدلالات النصية، في الأغنية، من دلالالة فيينا المجاز المرسل الذي علاقته البعضية إلى الرمز الذي تصاغ به أسطورة أوروبا المرأة الغاوية التي تفتن الواقعين في شباك سحرها من سكان الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط وهو الرمز الذي أقام عليه أمل دنقل مزاميره عن الإسكندرية في ديوانه"العهد الآتي"التي يفتتحها بالمقطع"أعشق اسكندرية واسكندرية تعشق رائحة البحر والبحر يعشق فاتنة في الضفاف البعيدة"واسكندرية أنثى في المزامير، لكنها أنثى تعشق أنثى غيرها هي الغريمة الساحرة، أوروبا، في الضفاف الأخرى من البحر المتوسط والقصيدة تؤكد ضياع هوية اسكندرية وجذورها العربية إذا تعلقت بالغريمة الساحرة أو أخذت تسمّر عينيها نحو الماسة التي تزيّن تاج الغريمة التي تقع مملكتها على الضفة الأخرى من البحر وكان هذا النوع من الرمزية متوافقاً مع توجهات أمل دنقل القومية التي ظل شعره يجسدها بصفتها مصدر الهوية وأصلها الذي يمكن أن يضيع مع الوقوع في شراك تقليد الآخر ونسيان جذور الذات. ويبدأ يوسف إدريس من هذا النوع من الرمزية الذي يجاوز زمن أمل دنقل إلى غيره من أزمنة الشعر العربي الأقدم التي ظلت المدينة فيها مرموزاً لها بالأنثى، لكن الإطار المرجعي المحدد في عمليات التفاعلات النصية، على امتداد قصة يوسف إدريس، هو أحمد رامي في أغنيته"ليالي الأنس في فيينا"، إذ تغدو فيينا المرأة الوجه الأنثوي الساحر، المغوي، الفاتن، من أوروبا الأسطورة التي تحتل المرتبة الأعلى في ثنائية الأنا والآخر، والتي يبدو تميزها في كونها جنّة بالمعنى المجازي، ملأى بالحور العين اللائي هن طوع بنان من يمد يديه إلى حيث يتم النعيم للروح والعين، وحيث رنين الكأس ورنة الألحان، فضلاً عن القوام المياس الذي يعاطف الأغصان. والبطل في قصة يوسف إدريس هو مصطفى أو"درش"كما يطلق عليه أصحابه، فعل المستحيل ليوفد في مهمة مصلحية أسمى، وللتفرج والفسحة في حقيقة الأمر ويتم له المراد، ويركب البواخر والقطارات إلى أن يصل إلى أمستردام، عاصمة هولندا، حيث يتم مهمته الرسمية بنجاح، فيفرغ لمهمته الثانية، وهي النساء، فكانت رغبته الدفينة أن يجرب المرأة الأوروبية ذات الشخصية، بعد أن شبع من نساء بلده وإيقاعهن في حبائله وينصحه العارفون ببواطن الأمور بالذهاب إلى فيينا، إذا أراد المرأة وحتى بغير نصيحتهم، كانت فيينا هي ضالته المنشودة، فيينا التي كان يسمع أسمهان تغني بصوتها الرنان ليالي الأنس في فيينا وكان جسده يتسع بأحلام لا حدود لها عند سماع وتخيل إيحاءات الأغنية ولوازمها، الأمر الذي جعله يدبر هذه الرحلة التي كان الهدف منها"فيينا المرأة"وپ"نساء فيينا"اللائي تجمعهن المدينة، فتغدو إياهن، أو يصرن إياها. وها هو ذا، له يومان في فيينا، والنساء أمامه وخلفه وحوله"نساء نمسويات فيهن تتركز روح أوروبا"وكلهن بلا استثناء يتمتعن بقسط وافر من الجمال، كل واحدة فيها شيء من أوروبا، وبصر"درش"زائغ إزاء هذه الوفرة التي لم يتعودها من الجمال، فعقله مشتَّت موزع، وبصره لا يزال كما بدأ الرحلة حائراً زائغاً. ومرت عليه ليلتان، وبقيت له الليلة الثالثة، التي انطلق فيها باحثاً عن قوام مياس، لكن سدى، فكلما اقترب من هدف، أو فريسة، زاغ منه الهدف، وتركته الفريسة في انتظار غيرها، عبر الشوارع التي أخذ يذرعها على قدميه بلا كلل ولا ملل. وتبدأ عملية البحث مع نهاية النهار واقتراب الليل، كأنها في تحديدها الوقت تتركنا في فضاء الليل الذي يقترن بالتوحد والحب والخيالات والأحلام وتتكرر مغامرات"درش"الذي لا يقبل نوع النساء اللائي يطاردهن البحارة الصغار من الأسطول الأميركى"إنه يبحث عن أوروبا السيدة، وهم يبحثون عن أوروبا العابثة، وشتان ما بين الأوربيتين"أما الأولى فهي التي كانت خيالاً سارياً مع الأوهام، وطيفاً جارياً مع الأحلام، في ما تقول أغنية أسمهان التي يزيده رجعها حرصاً على أن يبعث قلبه كي يسبح ويطير، في فضاء فيينا، عله يلقى سميراً وعندما يتعب من السير يجلس إلى بار، لعل الشراب يقود إلى السمير، ويقنع نفسه أنه في أوروبا، في فيينا الجميلة، في ليلة من لياليها، وأن هذا يحدث له حقيقة، ولا بد له من أن يستمتع بكل دقيقة وثانية، فقد تستحيل كل هذه الأشياء إلى ذكرى لا تعود. وأخيراً، يمل من طول المقام في البار وحيداً، فيواصل مسعاه الليلي، لعله يجد من تطيب بها نفسه، وتتحقق بها أحلامه وبعد مغامرات عدة، كأنها ارتحالات الصوفي المثابر على الوصول إلى لحظة الكشف، يعثر"درش"على سيدة وحيدة، وكانت الساعة جاوزت منتصف الليل، فيتبعها ككلب يشم روائح صيد، حائراً بين ارتداء المعطف البلاستيك الخفيف الرخيص الذي اشتراه ليقي أوجه حلله من أمطار الصيف، في أوروبا، وخلع المعطف كي ترى المرأة حلته الأنيقة ويمضي وراء بغيته، يكاد ينظر بأربع عيون، فما يراه يُزيغ الأبصار، ولا يفلت المرأة التي يتبعها وكان واضحاً أنها ليست باهرة الجمال، ولكنها على الأقل وسيمة، ويفتعل أكثر من مناسبة للحديث، لكن كل مرة كانت تواجه بأدب السيدة وابتسامتها، لكن من دون أن تبين ملامحها عن شيء ولكنه لا يتوقف عن المضيّ وراءها، ترنّ دقات كعبها على حجر الشارع رنيناً حلواً يتصاعد في سكون الليل، ويهيّج مكامن أشجانه ويجعله ينتظر بعد كل دقة من الكعب دقته المثيرة التالية. ويمضي السرد بنا، محلقاً مع أحلام"درش"الذي يقرر أنه لا بد سيقضي مع هذه المرأة أجمل الأوقات وينتهي سير المرأة إلى محطة الأتوبيس فيتقدم إليها ببعض الألفة، وبالجملة المفتعلة ها نحن نلتقي مرة أخرى وتركب المرأة الحافلة، فيركب وراءها، ويجلس إلى جوارها، مفتعلاً الحديث مرة أخرى ولا يجد منها صدّاً، بل ابتسامة مؤدبة لا معنى لها، ويمضى الحديث، فيخبرها أنه من مصر وتخبره أن الحافلة ستمضي إلى الضواحي، وأنه إذا ركب معها إلى المحطة الأخيرة لن يجد ما يوصله إلى الفندق الفخم الذي ادَّعى أنه مقيم فيه ولكنه لا يستطيع أن يتركها، فيظل إلى جانبها، والحافلة تمضي إلى المحطة الأخيرة الواقعة في أقصى فيينا فتنزل السيدة، وينزل معها لا مبالياً بما يمكن أن يحدث له بعد أن انتصف الليل، وتشفق عليه السيدة التي تدعوه إلى بيتها بعد انتهاء موعد المواصلات ويعرف أن زوجها على سفر، وأنها تعيش مع ابن يبلغ من العمر ست سنوات وطفلة لم تجاوز الأشهر الستة. وينتهي الأمر بالوصول إلى المنزل، وتتابع المفارقات، فالمنزل بالغ الصغر، مملوء بملابس الأطفال المعلقة على حبل لكي تجف وتأمره بالتسلل في صمت حتى لا يوقظ الطفلة الصغيرة ويدخل معها إلى حجرة النوم فيفاجأ بمهد الطفلة التي تطلب منه السيدة أن يحمله معها إلى غرفة ابنها المستقلة ويقوم"درش"بكل ما تطلب منه، وقد ضاع منه الخيال الساري مع الأحلام، وتحطم على أرض الواقع الصادم ويحاول"درش"أن يستجمع نفسه بكل ما يستطيع، خصوصاً حين تخلع أمامه المرأة ثيابها من دون تردد أو خجل، فيرتبك وتأتي اللحظة الحاسمة فيفقد قدرته الجنسية، وسدى يحاول أن يعود إلى اتزانه الذي ضاع مع القلب الذي لم يعد يسبح أو يطير، على رغم أنه قد لاقى السمير ولا يعود إليه روعه إلا بعد أن استرجع ذكرى لقاءاته الحميمة مع زوجته"نوسة"في منزلهما الصغير في حي السيدة زينب ولا يفلح اللقاء الحميم بالمرأة إلا بعد أن يستعيد لقاءاته الحميمة بزوجته، ويتخيل نفسه في سريره والمرأة هي زوجته وينتهي اللقاء الذي لم يخذله خيال زوجته فيه، وأثبت للمرأة أنه أميرها الأفريقي ولكن تأتي لحظة التنوير الأخيرة عندما يرى ابتسامة المرأة تتسع وتغمر وجهها كله، وتقول له بخجل، وهي تحدق في صورة زوجها القريبة من الفراش، إنها كانت مع زوجها، وإنها اكتشفت أنه أميرها الأفريقي الحقيقي ولم يخبرها هو بالحقيقة المقابلة، وهي أنه كان مع زوجته"نوسة"، فبدأت تتحرك كي ترتدي ملابس الخروج، وتستعد للانطلاق إلى عملها، بعد أن صدمته بما قالته، ولم يصدمها هو بما شعر به وعلى رغم ذلك يحس"درش"أنه لم يعد غاضباً عليها، وحتى لم يعد غاضباً على نفسه، كل ما أصبح يشغله في تلك اللحظة هو شعور كان بدأ ينبثق في نفسه وحنين غريب جارف إلى بلده، وعائلته الصغيرة، والدنيا التي جاء منها. ويخرج"درش"إلى الطريق مع بداية النهار، بعد أن انقشع الخيال الساري مع أوهام الليل، وبعد أن اكتشف أنه لا فارق بين الزوجة التي تركها في مصر والمرأة التي قضى معها ليلته، فلا الشرق شرق ولا الغرب غرب، وكلاهما واحد في التحليل الأخير، فالسيدة فيينا لا تفترق عن السيدة القاهرة وكل ما بينهما من فوارق يقع على مستوى السطح، أما ثنائية الأنا الأدنى والآخر الأعلى، فتتكشف عن وهم، وخيال رومانسي سار كالأوهام التي سرعان ما تحطمت على أرض الواقع، أو أحلام الليل التي ينهيها مطلع النهار تماماً كما انقشعت أوهام"درش"الذي اختزل أوهام السيدة فيينا التي لا تغادر عالمها إلا لتعود إلى هذا العالم، أو"درش"الذي لا يغادر مصر إلا ليجدها في غيرها فلا فارق بين البشر في آخر الأمر، وحواجز الثقافات وأوهام الأعلى والأدنى، الكمال والنقصان، كلها تذوب تحت شمس الواقع الذي ينقض أسطورة الشرق الغرب، الأنا الآخر ويستبدل بها واقع البشر الذين لا خلاف، جذرياً، بينهم، خصوصاً إذا غصنا عميقاً، وإذا سلطنا شمس الجذر الإنساني المشترك على الطيف الجاري مع الأحلام، حيث لا يبقى سوى جوهر الإنسان وراء كل الخيالات الخادعة كالأوهام وهذا هو الدرس الذي يتعلمه"درش"والذي أراد يوسف إدريس أن ينقله إلينا، في مدى التيار الواقعي الذي كان نقضاً للتيار الرومانسي الذي انتسبت إليه أغنية أحمد رامي وقصائده على السواء. ويمكن أن نضيف دلالة أخرى إلى دلالات القصة، وهي دلالة ترتبط بالعلاقة المعقدة بالأنا الذي لا يفارقه الشعور بالدونية وهو في حضرة الآخر المتفوق، أو في مواجهته بلا فارق وهي علاقة يدفع تعقيدها الأنا إلى محاولة التفوق على الآخر على مستوى مبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع وهو أمر يؤدي فيه الجنس دوراً رمزياً، وتؤدي فيه المحاولات المتتابعة لصيد الآخر الأنثى جنسياً دوراً تعويضياً، وذلك على نحو يذكر بالموقف الذي يتخذه حسنين، بطل رواية"بداية ونهاية"لنجيب محفوظ عندما يرى ابنة أحمد بك يسري الذي كان يعطف على أسرته الفقيرة، فيصرخ في أعماقه، عندما يراها جالسة بكل ما تمثله في الصفوف العليا، قائلاً:"لو ركبتها ركبت طبقة بأسرها"وهو موقف يوازي، في رمزيته بعض دلالات"السيدة فيينا"حيث تختزل المدينة أوروبا، وتختزل المدينة في جسد امرأة لا بد من الوصول إليها والظفر بها، من منظور مبدأ الرغبة الذي يحرك كل محاولات المسعى اللاهب لپ"درش"الذي يريد أن يظفر بالسيدة فيينا بكل ما تمثله، لكنه، في النهاية، يكتشف أن الظفر على مستوى مبدأ الرغبة نوع من الخيال الساري مع الأوهام، إذا عدنا إلى استدعاء أغنية أحمد رامي التي تتحول إلى دافع ومحرك للقص الذي ينتهي، في النهاية، بالاستسلام إلى مبدأ الواقع وتقبله، ما ظلت الرحلة مع أوهام مبدأ الرغبة مستحيلة من المنظور النفسي الفرويدي، ومن المنظور الواقعي الذي تهيمن عليه النزعة الواقعية التي كانت الفضاء الذي يتحرك فيه الإبداع القصصي عند يوسف إدريس، خصوصاً في مطلع الستينات من القرن الماضي، التي كانت ذروة صعود النزعة الواقعية التي ابتدأ صعودها منذ الخمسينات. ولا خلاف بين الدلالة الأخيرة والدلالة السابقة من حيث التجاوب في مدى العنصر التكويني الذي يصوغ بناء القصة، ويتحكم في حركة سردها، أعني عنصر المفارقة الذي لا تفارقه دلالة السخرية، والمفارقة تقع نتيجة الالتقاء المفاجئ بين نقيضين من حيث الظاهر، يتكشف ظاهر تناقضهما على نحو مفاجئ، بما يحيل الثنائية الضدية بين طرفي المفارقة إلى مقلوبها، فإذا بالطرف الثاني هو شبيه الطرف الأول وليس نقيضه ولذلك تبدأ قصة يوسف إدريس بما يوهمنا بالاختلاف الجذري بين"درش"والسيدة فيينا، وبين السيدة فيينا وغيرها من نساء عالم"درش"ولكن القصة تنتهي بانقلاب التناقض الظاهري الذي يغدو مشابهاً في تجاوبات البنية التحتية للموقف، فيكتشف"درش"أوهام تصوراته عن السيدة فيينا، وتكتشف هي، بدورها، أوهام تخيلها له، فلا هو أمير أفريقي عنيف جنسياً على نحو لا مثيل له في عالمها، وإنما هو صورة قابلة لأن تكون مجلى لزوجها الذي لولا استدعاؤه لما اكتمل لقاؤها بالأمير الأفريقي الذي غدا صورة من زوجها في النهاية. هذا عن المفارقة، أما دلالة السخرية التي تؤديها فقرينة نقض أسطورة الأنا الأدنى، والآخر الأعلى، وتعرية الوهم المصاحب لها، بل السخرية منه، ضمناً على الأقل ولذلك يمكن أن نعد قصة يوسف إدريس انقطاعاً إبداعياً ومعرفياً في الوقت نفسه عن الثنائية الضدية الملازمة لعلاقة الأنا الآخر وفي الوقت نفسه، التحول عن صيغة الثنائية التي ظلت ملازمة للقص العربي، منذ أن كتب علي مبارك 1823-1893 روايته"علم الدين"إلى ما بعد أن كتب توفيق الحكيم 1898-1987 روايته"عصفور من الشرق"التي ظلت ثنائيتها تراوغ السرد الذي لم ينقطع عنها إلا بعد المحاولات الواقعية التي حطَّمت أساطير الرومانسية وأوهام ثنائياتها التي قطع مسارها أمثال يوسف إدريس.