في 12 تشرين الثاني نوفمبر كان غوردون براون الخطيب الأبرز في المأدبة التي أقامها عمدة مدينة لندن في قاعة غيلدهول. وارتدى براون البزة الرسمية التي كان يكرهها وقد رفض ارتداءها خلال ولايته كوزير الخزانة، ووقف وتحدث عن السياسة الخارجية لحكومته. وكان ذلك الخطاب هو الأهم الذي ألقاه عن هذا الموضوع منذ أن خلف توني بلير في حزيران يونيو الماضي. وخلال الأسابيع الماضية التي أمضاها في مقر رئاسة الوزراء في 10 داونينغ ستريت، طغت الملفات المحلية على جدول أعمال غوردون براون. ولاحظت أن مقاربته للشؤون الخارجية لا تزال الى حد كبير شبيهة بتلك التي انتهجها عندما كان مسؤولاً عن الاقتصاد البريطاني. ولاحظت أيضاً مهاراته التحليلية وحبه للتفاصيل التقنية. أمامي نسخة عن الخطاب اللافت الذي ألقاه حول موضوع السياسة الخارجية في بنغالور في شهر كانون الثاني يناير الماضي، والذي استوحى منه العديد من الأفكار. صرح رئيس الوزراء خلال خطابه في غيلدهول:"ترتكز مقاربتي على مبدأ الأممية الواقعية. واخترت هذا المبدأ بالذات لأن التحديات العالمية التي نواجهها اليوم تحتاج إلى حلول شاملة. وعلى الدول توسيع نطاق التعاون إلى خارج حدودها والقيام بتدخل واقعي لترجمة مصالحنا وقيمنا المشتركة". وشكّل الملف الإيراني الموضوع الرئيسي في خطاب براون الذي أوضح أنه يمكن لهذه الدولة ان تقوم بخيار واضح فقال:"إذا تخلت إيران عن سياستها النووية وأوقفت دعمها للإرهاب، فستشهد علاقاتها مع سائر دول العالم تحولاً إيجابياً وستتخذ طابعاً ودياً". لكن إذا قررت إيران المضي قدماً في مواجهة المجتمع الدولي، فستعرض نفسها لعقوبات صارمة. واقترح رئيس الوزراء فرض حظر عالمي على الشركات المساهمة في تطوير حقول النفط والغاز الواسعة في إيران ويساورني شك حيال مساندة روسيا والصين لهذه الخطوة. كما أوضح براون أنه سيقوم بما يلزم ليتصدر، من خلال الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، المساعي الرامية إلى ممارسة ضغوط على طهران. وأضاف قائلاً:"يجب ألا تشك إيران في جدية هدفنا". يؤمن براون بشدة بضرورة التعويل على المفاوضات الديبلوماسية، إلا أنه لا يستثني احتمال التدخل العسكري. وأرى ذلك بمثابة الجواب الممتاز على السؤال حول ماذا يجب فعله تجاه إيران. ومن ثم انتقل رئيس الوزراء إلى الأزمة الراهنة في باكستان التي ستتم مناقشتها مع قادة الكومنولث الآخرين خلال القمة السنوية، وقال:"نناشد الرئيس مشرف العودة إلى الدستور وإيجاد الظروف اللازمة لضمان إجراء انتخابات حرة وعادلة في المهل المحددة لذلك، أي في كانون الثاني يناير 2008". منذ توليه منصب رئاسة الوزراء، حاول غوردون براون الابتعاد بعض الشيء عن الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني. وعلى سبيل المثال، لم يأت على ذكر الرئيس الأميركي في خطابه. وتحسباً للانتقاد الذي قد يرده من واشنطن إزاء موقفه الجديد، قال براون:"إعجابي المعهود بأميركا ليس سراً... وأجد أن مساعي فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي لبناء علاقات متينة مع أميركا ستعود بالفائدة على بريطانيا وأوروبا وسائر دول العالم." وكان غوردن براون قد صرح خلال خطابه في بنغالور:"إن نظام المؤسسات الدولية الذي رأى النور في فترة ما بعد عام 1945 - والذي كان معدّاً على أساس ان العالم لا يضم سوى اقتصادات منغلقة، وما لا يزيد عن 50 دولة - لم يسقط بعد. ولكن، بعدما أصبح عدد دول العالم 200 دولة وبرز عصر العولمة، بات هذا النظام بحاجة ماسة إلى تحديث وإصلاح". وفي غيلدهول، أعاد رئيس الوزراء البريطاني التذكير بالحاجة إلى إصلاح أبرز المنظمات الدولية بما فيها الأممالمتحدة ومجموعة الثماني وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بيد أن بعض الخبراء في هذا الشأن يشككون في الحاجة إلى الإصلاح. فالمشكلة بالنسبة إلى السياسيين هي أن إطلاق حركة إصلاح في هذا الاتجاه قد يعني اعتراض سبيل الكثيرين. ويبرز في هذا الصدد السؤال حول هوية الدول التي سيتم إقصاؤها عن الصيغة الموسعة لمجلس الأمن. أما العنصر الذي يمكن وصفه بالمفاجئ في خطاب براون فهو دعوته إلى إنشاء قوة احتياطية مدنيَة دولية، تضم ضباط شرطة وقضاة، للمساعدة على إعادة بناء الدول المنهارة. وبحسب براون، ستوضع شؤون إعادة الإعمار والتنمية على قدم المساواة مع عمليات حفظ السلام في المنظمات الدولية. وآمل سماع المزيد في هذا الصدد. لكن قد يتأتى عن هذه المبادرة عدد من المشاكل بشأن الأعراف والتقاليد واللغة، وقد يُقاوم تدخل القوة الاحتياطية في بعض البلدان المعنية. وصف المحللون هذا الخطاب بأنه يفتقر إلى اقتراحات جديدة ومبتكرة. ومن بين أكثر العناوين تعبيراً عن هذا الواقع أذكر:"خطاب مأدبة غيلدهول ترك بطوننا خاوية". من الواضح أن براون أقل حماسة تجاه الاتحاد الأوروبي من سلفه توني بلير، وأنه قد سئم من الإصلاحات الأوروبية الداخلية التي لا تنتهي. وسأخلص إلى القول إن غوردون براون وضع لحكومته سياسة خارجية تتَسم بالترابط والواقعية والذكاء. * نائب بريطاني سابق عن حزب المحافظين