لو لم تكن حاضراً في القاعة لخلت ان المتحدث رئيس وزراء أوروبي مصاب بهاجس التنمية والأرقام والاستقرار. لم يغرف الرجل من قاموسه المعتاد. لم يندد ب"الشيطان الأكبر". لم يتحدث عن حتمية زوال"الكيان المصطنع". لم يجدد إنكار المحرقة. لم يقترب من التخصيب. لم يذكّر بالترسانة الصاروخية. ولم يهدد المنطقة ب"شر مستطير"إذا هاجمت الولاياتالمتحدة بلاده. لم يتحدث عن العراق ولا عن افغانستان. لو لم تكن حاضراً لخلت أنه رئيس وزراء أوروبي. اختار للمناسبة قاموساً آخر. التعاون والغاء التأشيرات وتسهيل الانتقال والسماح بتملك العقارات وتعزيز روابط المصالح، والاستثمار المشترك في النفط والتجارة الحرة وتوفير مياه الشرب والغاز وتشجيع"السياحة النزيهة"ومساعدة الدول الاسلامية والفقيرة والتبادل العلمي والتقني والحفاظ على البيئة. دعا أيضاً الى انشاء مؤسسات للتعاون الأمني ولم ينس دعوة الحاضرين الى عاصمة بلاده. حضورك في القاعة يعفيك من الظن أن المتحدث أوروبي. انه ببساطة الرئيس محمود أحمدي نجاد ضيف الجلسة الافتتاحية لقمة دول مجلس التعاون الخليجي التي تختتم اليوم في الدوحة. انتظرت وسائل الإعلام كلمة أحمدي نجاد. الرجل مثير ومواقفه مثيرة. ومن عادة الإعلام أن يرصد من يزوده بالأخبار العاجلة والمانشيتات الصارخة والتصريحات التي تخلف دوياً في العواصم القريبة والبعيدة. ووقع الإعلاميون في التكهنات. هل يوظف اطلالته من منبر مجلس التعاون لشن حملة على أميركا؟ هل يغتنم الفرصة لإطلاق مبادرة تخفض سخونة الخلاف حول الملف النووي؟ هل يعلن تحولاً ما يخفض قلق المتخوفين من إيران النووية ومن إيران التي تحاول انتزاع دور الزعامة في الاقليم عبر امتلاك الأوراق واللغة الهجومية المدعومة بإعلانات متواصلة عن ولادة صواريخ وغواصات؟. لم يفعل أحمدي نجاد هذه ولا تلك. جاء من مكان آخر. تحدث بلغة فتح الحدود واتاحة الفرص وتوسيع مجالات التعاون والاستثمار. لا أريد التكهن بما جال في رؤوس القادة الحاضرين. سياستهم تقوم أصلاً على فتح أبواب التعاون وصيانة الاستقرار. لكن يصعب الاعتقاد أن ظهور أحمدي نجاد في صورة داعية تعاون واستثمار يلغي القلق المتراكم من أحمدي نجاد الآخر الذي يخاطب العالم عادة في صورة من يفضل أن يكون مرهوب الجانب على أن يكون مقنعاً. وأغلب الظن أن تشديد المتحدث على الاستقرار والاستثمار في"الخليج الفارسي"أعاد ربط صورة أحمدي نجاد اليوم بصورة أحمدي نجاد البارحة. كان في استطاعته الذهاب أبعد في تحسين الصورة لو أشار الى الخليج من دون حسم هويته ولو قام بلفتة في موضوع الخلاف مع الإمارات حول الجزر الثلاث. الخبث مرض صحافي بامتياز. لا أعرف لماذا مر صدام حسين ببالي وأنا أتابع في القاعة خطاب أحمدي نجاد. ولا أعرف لماذا تساءلت عن مشاعر الرئيس العراقي جلال طالباني لو كان يتابع الجلسة. هل هو الانتحار العراقي الذي أتاح لأحمدي نجاد حق رسم"خريطة طريق"لمستقبل التعاون في المنطقة؟ وهل ما شاهدناه هو حصيلة اختلال التوازنات بفعل ما تعرض له العراق من نحر وانتحار؟. وهل تشكل اقتراحات أحمدي نجاد دعوة الى دول المنطقة للتسليم بموازين القوى الجديدة وحقائق الجغرافيا والتخلي عن محاولات إعادة التوازن عن طريق علاقات وثيقة مع قوى كبرى من خارج الاقليم؟. لا ينكر العرب أن جارتهم إيران دولة كبيرة وعريقة. لا ينكرون حقها في لعب دور كبير في الاقليم، لا ينكرون حقها في أن تكون دولة قوية لكن من حقهم الالتفات الى مصالحهم ودورهم وضرورة بناء الاستقرار على علاقات بين دول طبيعية تنتمي مفردات سياساتها الى قاموس الاستقرار واحترام حدود الأدوار. كان باستطاعة أحمدي نجاد أن يدعم دعوته الى الاستثمار بتقديم ضمانات وتطمينات ومقاربات مختلفة للدور الايراني خصوصاً على الأرض العربية. فسياسة امتلاك الأوراق داخل الدول العربية تعزز حرب الأدوار وتنسف فرص الاستثمار في الاستقرار.