كرست أنقرة جهدها الديبلوماسي خلال عام 2007 كي تكون اقرب الى كل ملفات المنطقة الساخنة، محاولة الإشارة الى ان تلك الملفات قد تبدو اقرب الى الحل إن أعطيت للدور التركي فرصة للعمل عليها مع الاطراف المعنيين. وشهد العام تحركاً تركياً اقليمياً نشطاً ضربت خلاله تركيا رقماً قياسياً في عدد الضيوف المهمين الذين توافدوا عليها وعدد زيارات قادتها لدول الجوار، إضافة الى الاجتماعات الرسمية والشعبية التي احتضنتها اسطنبول في الوقت ذاته، وكل ذلك تمهيداً لدور تركي مرشح لكي يكون أكبر العام المقبل. ويدرك صانع القرار في انقرة ان الظروف والاحتياجات في المنطقة قد مهدت لتركيا سبل هذا التحرك. فمن وساطة سرية فاعلة بين سورية واسرائيل، الى أخرى علنية بين إيران والاتحاد الأوروبي حول ملف طهران النووي، ومن ديبلوماسية الهاتف في الشأن اللبناني الى السعي لدور الحكَم المنصف بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن مطالبة للفرقاء في العراق بالتفاهم والمصالحة، الى حزم وتشدد مع أكراد العراق في ما يتعلق بملف حزب العمال الكردستاني، طغى على ذلك كله موقف رافض للاستقطاب وسياسة المحاور بين معتدلين ومتطرفين أو سنّة وشيعة في المنطقة، ودعوة الى الحوار بين الاطراف سبيلاً لمنع المزيد من التدخلات الخارجية والسيناريوات العسكرية وتوابعها. التحرك التركي لا ينطلق فحسب من حرص القيادات التركية على بروز تركيا كلاعب رئيس في المنطقة بعد اختلال توازن القوى فيها لمصلحة ايران أخيراً، وانما يستند أيضاً الى الحاجة الى تنظير سياسي محلي معقول ومقبول لمستقبل المنطقة بعد غموض المخططات السياسية الأميركية في شأنها وفشل الواضح منها. التحرك التركي قائم على فكرة ضرورة الا يُترك مستقبل المنطقة وقضاياها الساخنة لصراع رؤىً أميركي - إيراني يطل برأسه على العراق ولبنان وفلسطين والخليج العربي، وضرورة تقديم تصور معقول لحل خلافات المنطقة من دون هيمنة طرف على آخر. من هنا جاء حرص انقرة على حضور سورية مؤتمر انابوليس وطرح ملف الجولان وعدم الاكتفاء بدفع المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، وقد استعرضت تركيا قدراتها الديبلوماسية قبل تلك القمة من خلال جمع الرئيسين الفلسطيني والإسرائيلي معاً تحت قبة البرلمان التركي، وذلك بعد زيارة الرئيس الأسد لأنقرة بشهرين فقط، وحمل هذا الجمع إشارة أرسلتها أنقرة الى واشنطن حول إمكان لعب تركيا دوراً فاعلاً في هذه القضية إن تخلت أميركا عن احتكارها ملف مفاوضات السلام وأفسحت في المجال لدور تركي فيه مدعوم من جانبها، هذا اذا كان الهدف الحقيقي هو بالفعل تحقيق السلام في المنطقة وليس ديمومة العملية التفاوضية الى ما لا نهاية. وكانت انقرة قد نجحت في كسر الجمود الذي أصاب المفاوضات الأوروبية - الإيرانية حول ملف طهران النووي من خلال جمعها مسؤول الملف النووي الإيراني علي لاريجاني مع مسؤول العلاقات الخارجية خافيير سولانا في أنقرة في نيسان ابريل الماضي، وهو نجاح عطل خططاً اميركية لزيادة العقوبات الاقتصادية على طهران وأجّلها ورجح كفة الحل التفاوضي وتجنيب المنطقة حروباً جديدة. كما استطاعت أنقرة من خلال اجتماع دول جوار العراق الموسع ? والاجتماع في الأصل فكرة تركية - الذي عقد في اسطنبول في بداية تشرين الثاني نوفمبر الماضي أن تحصل من وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس على مباركة مهمة لبيان الاجتماع الختامي الذي أكد ضرورة بقاء العراق موحداً، وذلك لسد الطريق على مشاريع التقسيم الأميركية التي طرحت في الكونغرس في إطار البحث عن حل للأزمة العراقية. وتصدت تركيا لمسألة الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت لأنقرة في شباط فبراير الماضي من خلال ارسال هيئة فنية تركية لتقصي الأمر هناك. واستضافت اسطنبول اكثر من 5 آلاف متطوع جاءوا لحضور اكبر اجتماع شعبي إسلامي للتشديد على الحق العربي والإسلامي في المدينة المقدسة، وفي المقابل رفضت تركيا الضغوط الأميركية لقطع علاقاتها الاقتصادية بطهران، بل على العكس، دشنت مع وزيري الطاقة والكهرباء اللذين زارا انقرة الصيف الماضي مشاريع للتنقيب عن الغاز الإيراني وتوزيعه، إضافة الى إنشاء محطات لتوليد كهرباء، وذلك تجسيداً لإصرار تركيا على ضرورة احتواء إيران بدلاً من عزلها واستعدائها وعدم الظهور في صورة الخصم ضد طهران في المنطقة وإبقاء العلاقة ضمن حدود التنافس الإقليمي. حظيت تركيا بزيارة الملك السعودي مرتين خلال عامين متتاليين، ووقعت اتفاقية تعاون استراتيجي مع القاهرة وأخرى للتعاون السياسي مع جامعة الدول العربية، وهي الدولة التي شدت من أزر دمشق بعد الاعتداء الجوي الإسرائيلي عليها، وهي كذلك المتنفس الاقتصادي لإيران حالياً، ورئيس جمهوريتها هو أول رئيس يزور الرئيس الباكستاني برويز مشرف عقب إلقائه بزته العسكرية ويكسر عزلته الدولية، كل ذلك يشير الى دور متنامٍ لتركيا في الشرق الأوسط ومرشح للبروز اكثر العام المقبل، واذا بدا هذا الدور التركي حتى الآن كسفير للنيات الحسنه، فإن الأتراك يراهنون على دور أكثر تأثيراً وفاعلية في ظل تعزيز تعاونهم السياسي مع دول المنطقة، ورفع شعار الحوار الإقليمي بديلاً من التدخلات الخارجية غير المحسوبة العواقب.