في طريق عودتنا بعد زيارة رسمية لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الى طهران في آب (أغسطس) الماضي، سألته عن سبب تصدّر تركيا الوساطة في الملف النووي الإيراني على رغم اعلان طهران في اكثر من مناسبة عدم حاجتها الى وساطات بلهجة يغلب عليها الأنفة والترفع عن اعطاء تركيا أي دور في المنطقة - لأنها تتحدث مع الدول الكبرى مباشرة -، اجابني باختصار، وهو يسأل قائد الطائرة ليتأكد من أن وقت الإفطار قد حان مع دخولنا الأجواء التركية في طائرته الخاصة، ان المصلحة التركية تستدعي التحرك لنزع فتيل الأزمة، فأي عقوبات أو حل عسكري لن يضر بأيران وحدها وإنما سيضر بتركيا ومصالحها في المنطقة وهذا يجعلنا حريصين ربما أكثر من أي طرف آخر على حل هذه المسألة، ولنا في حرب تحرير الكويت وحرب احتلال العراق ومن قبل ذلك العقوبات على العراق دروس بقيت محفورة في ذاكرتنا، لأن اقتصادنا وأمننا في تركيا تضررا في شكل مباشر من تداعيات تلك الأزمات التي تركت للغرب ليحلها بأسلوبه وطريقته الخاصة، حين يتدخل في شكل معين في منطقتنا ثم يكون لديه خيار الانسحاب الى ما وراء المحيط، بينما نحن لا نستطيع أن ننسحب بعيداً من أزمة تقع على حدودنا، لذا فأننا معنيون بما يحدث اكثر من الغرب، لأننا نعيش هنا، ولأن في القرن الحادي والعشرين يستحيل فصل الأزمات عن محيطها ويستحيل القول إن مشكلة تحل في جارك لن تؤثر فيك. استدركت سائلاً بلهجة مشاكسة، تقول الغرب ثم تقول أما نحن! ألا تعتبر تركيا جزءاً من الغرب؟ قطع سؤالي صوت قائد الطائرة مؤذناً بحلول موعد الإفطار فانسحبت على استحياء وأنا أدرك أن قائد الطائرة أجاب على سؤالي الذي خلط بوضوح بين الجغرافيا والثقافة من جهة وبين التاريخ والسياسة من جهة أخرى. دوافع الإصرار لم تكن محاولات داود أوغلو لكسب ثقة الإيرانيين سهلة لكنها كانت متكررة بإصرار وعناد يشكلان جزءاً من مميزات ذلك الدبلوماسي الطموح، فكل التقارير التي كانت تأتي من طهران رداً على عروض أنقرة التوسط في شأنها النووي قبل سنة كانت تحمل في طياتها رائحة الاستعلاء والترفع، وكأن الرد يقول: من هي تركيا حتى تتدخل في شؤون الكبار؟ على رغم ذلك لم تيأس الديبلوماسية التركية من تكرار المحاولة وطرح أفكار جديدة من أجل تجاوز الأزمة، خصوصاً أن فريق داود أوغلو كان منذ اليوم الأول لوصوله الى الحكم يثق بالرئيس باراك أوباما وفريقه، وفي تشبيه مهم لدبلوماسي تركي رفيع المستوى قال محاولاً توضيح الفرق بين إدارة أوباما وإدارة الرئيس السابق جورج بوش في شكل لا يخلو من مزاح: أن فريق ادارة بوش كان يشبه فريق فنار باهشة التركي، كل فرد من الفريق نجم بحد ذاته لكن لا انسجام بينهم، لكن فريق ادارة أوباما يشبه فريق غلطة سراي، قد يكون لاعبوه اقل نجومية لكنهم منسجمون ويعملون بروح الفريق. والحقيقة أن هناك ثلاثة عوامل دفعت تركيا الى الإصرار على دور الوسيط في الشأن الإيراني: أولها تعاون الإدارة الأميركية مع أنقرة وأهتمام أوباما الشخصي بتركيا وأفساحه المجال لها لتقوم بدور مهم في الشرق الأوسط بل مساعدته إياها في ذلك، فالانتقادات الشرسة التي وجهها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى إسرائيل منذ عدوانها الهمجي على غزة لم تلق أي انتقاد جدي من واشنطن، ولا التعاون الاستراتيجي الذي بدأته أنقرة مع دمشق، بل كان هناك دعم أميركي لجهود تركيا في القوقاز والبلقان والشرق الأوسط، خصوصاً في ما يتعلق بالشأن العراقي. ويعتقد داود أوغلو بأن باراك أوباما صادق في نواياه لحل أزمة الملف النووي سواء كان يريد ذلك من طيب خاطر أو كان مجبراً على ذلك. العامل الثاني هو معرفة داود أوغلو وفريقه المفاوض طبيعة السياسة الإيرانية من قرب، خصوصاً مستشاره للشأن الإيراني بولنت أراس الذي قضى في طهران أوقاتاً ربما كانت أطول من تلك التي قضاها في تركيا خلال السنتين الماضيتين، ناهيك عن خبرته الطويلة بطبيعة المزاج الإيراني وموازين القوى الداخلية، وهو- كأستاذه داود أوغلو - كان من المؤمنين بأن أزمة الملف النووي الإيراني أزمة داخلية في جزء كبير منها. والعامل الثالث هو الطموح التركي الى تخليص الشرق الأوسط من دائرة السجال الإيراني - الإسرائيلي المفرغة والتي أدت الى تعطيل عجلة النمو الاقتصادي والسياسي، وفرضت القيود على حركات الإصلاح السياسية داخل دول الشرق الأوسط. ولعل هناك دافعاً آخر رابعاً لكنه غير مباشر وهو شعور أنقرة أن احتمال المواجهة العسكرية قائم بوجود حكومة يمين متطرف في إسرائيل. محاولة غزو قلب طهران في المقابل كانت عملية بناء الثقة بين أنقرةوطهران طويلة وشاقة، فلم يكن سهلاً على أنقرة اقناع طهران بحيادها ونزاهة وساطتها مع كل هذا الدعم الأميركي الذي تلقاه من ادارة اوباما في سياساتها في الشرق الأوسط، ومع الصورة المرسومة لتركيا في أذهان الساسة الإيرانيين الذين تعودوا على تركيا الحليف الأطلسي للغرب والتي يحكمها نظام علماني يمنع الحجاب في الجامعات وتقوم بتدريبات عسكرية ومناورات مع «الشيطان الأكبر» و «ابنه». لكن تجنب تركيا الدخول في مواجهة مباشرة مع طهران في العراق، ورفضها الدعوات الانضمام الى ما هو حاصل من استقطاب مذهبي في المنطقة، وحسابها بدقة ردود فعلها على تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة ليكون رد الفعل التركي من خلال استخدام ادوات القوة الناعمة لا الرد المباشر العنيف، والتوتر الذي طرأ على علاقة أنقرة بتل أبيب بعد حرب غزة، وعدم تردد أنقرة في سحب سفيرها من واشنطن احتجاجاً على تأييد لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس مشروع قانون يعترف بأن ما وقع للأرمن في عام 1915 كان تطهيراً عرقياً على يد الجيش العثماني، كل هذا لعله دفع المعتدلين في طهران الى اعادة رسم صورة تركيا في اذهانهم، وهو أمر ساعدت عليه وإلى حد كبير شخصية داود أوغلو وأسلوبه في تناول المواضيع والنقاش، فخلال زيارة آب الماضي أجرى داود أوغلو ما يزيد عن 11 ساعة من المحادثات والمفاوضات مع المسؤولين الإيرانيين في يوم واحد وكان معظمها في غرف مغلقة من دون حضور شهود، ناهيك عن كون تركيا أول من هنأ الرئيس احمدي نجاد بفوزه الذي دار حوله لغط كثير في الانتخابات الرئاسية قبل سنة، إذ كان الرئيس عبدالله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان اول المهنئين، على رغم الانتقادات الغربية بأن تركيا قد تسرعت في ذلك ولم تستمع الى صوت المعارضة وأدلتها، كل هذا كان بين الجهود التركية - المباشرة او غير المباشرة - لبناء جسور الثقة مع طهران، كما ان المصلحة الإيرانية كانت تفرض تمسك طهران بوسيط يبقي على شعرة معاوية بينها وبين الغرب، فليس من مصلحة طهران بعد كل ما حققت من توسع في نفوذها وتقدم في مجال البرنامج النووي أن تفقد كل شيء في مغامرة عسكرية، ولا أن تواجه عقوبات اقتصادية جديدة. حقيقة الاتفاق وكواليسه دور الوساطة التركي بدأ يأخذ طابعاً جدياً بعد زيارة طهران في آب الماضي التي ظفر من خلالها داود أوغلو بموافقة لا تخلو من الغموض والشروط على مبدأ تبادل اليورانيوم خارج الأراضي الإيرانية، ليتبع ذلك اقتراح الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي بدعم الطرح التركي لتبادل اليورانيوم خارج إيران وعلى الأراضي التركية. ومنذ ذلك الحين وبعد اجتماع خمسة زائد واحد في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي في جنيف بحضور أميركي، على رغم عدم ايقاف إيران تخصيب اليورانيوم حينها، بدأت جهود الوساطة التركية تتكثف بين واشنطنوطهران، وحتى في ظل التصريحات النارية والتهديدات بين إيران والغرب في تلك الفترة، كانت انقرة تؤكد أن جهود الوساطة لم تصل الى طريق مسدود. كان داود أوغلو في اتصال شبه دائم بوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، فيما مستشار رئيس الوزراء التركي ابراهيم قالن - وهو أيضاً أحد تلاميذ اوغلو الموثوقين - ينسق تلك الجهود بين إيران التي يعرفها من قرب وبين واشنطن التي عاش فيها ودرس في جامعاتها، وكانت الجهود منصبة على توفير الضمانات التي تحرج طهران وتدفعها الى قبول التبادل خارج اراضيها في ظل عدم ثقتها بواشنطن والغرب، الى درجة أن داود أوغلو طرح على الإيرانيين أن ينقل اليورانيوم الإيراني الى تركيا بطائرته الخاصة، وكانت زيارته ايضاً الى البرازيل في نيسان لتنسيق المواقف بعدما بات واضحاً ان الضمانات التركية غير كافية لطهران، فحتى لو وثق المسؤولون الإيرانيونبأنقرة فماذا لو خدعت واشنطن والغرب تركيا وإيران معاً، وهو أمر لن يكون حصوله جديداً، فكان لابد من وجود ضامن يملك الوقود النووي ليكون كفيلاً يسد من مخزونه النووي في حال لم يوفر الغرب ما وعد به من يوارنيوم مخصب بدرجة 20 في المئة مقابل اليورانيوم الإيراني المخصب بدرجة 3,5 في المئة. وجرى الترتيب بتقديم الضمانات التي تطلبها إيران مع الحفاظ على ماء وجه واشنطن في المقابل، أي الوصول الى حل وسط، تقدم فيه إيران 1200 كيلوغرام من مخزونها من اليورانيوم المخصب الى تركيا ليتم تبادله هناك ب 120 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب من فرنسا، فالضامن الأول هو تركيا التي ستحافظ على اليورانيوم الإيراني وتتعهد اعادته فوراً في حال حصول أي خلل في الاتفاق، والضامن الثاني هو البرازيل التي ستزود إيران اليورانيوم اذا تخلفت فرنسا عن القيام بدورها، والضامن الثالث يبقى كمية اضافية من اليورانيوم انتجتها إيران في الفترة بين تشرين الأول الماضي وحتى أيار (مايو) الجاري كأحتياط عن الكمية التي ستسلمها للغرب، أي ان التبادل سيكون على اقساط من أجل بناء الثقة بين طهران والغرب وليس دفعة واحدة. وقد قبل الجانب الأميركي بذلك وحصل كل من انقرة والبرازيل على موافقة خطية من الرئيس اوباما من خلال رسالتين ارسلتا الى تركيا والبرازيل قبل توقيع الاتفاق بثلاثة اسابيع فقط، ولم تتضمن الرسالة أي حديث عن شرط وقف إيران للتخصيب، ولا ارسالها كل ما لديها من يورانيوم دفعة واحدة للخارج. لذا فأن مسارعة واشنطن الى طرح مشروع العقوبات على مجلس الأمن كان من باب حفظ ماء الوجه امام الحليف الإسرائيلي والرأي العام الداخلي الأميركي، وهو على كل حال مسار سيمشي بالتوازي مع مسار التبادل، من أجل تأكيد استمرار الضغط على طهران حتى اللحظة الأخيرة، بعد تجارب تراجعت فيها طهران عن وعودها في اللحظة الأخيرة. في هذا الإطار تجب الإشارة ولو سريعاً الى أهمية التفاهم الروسي - الأميركي في الوصول الى هذه النقطة، فمن اعلان هيلاري كلنتون ان واشنطن تريد شرق أوسط خالياً من الأسلحة النووية وما يحمله هذا التصريح من غزل الى طهران يستفز الحليف الإسرائيلي، الى اتفاق اوباما مع الرئيس الروسي ميدفيديف على ان بحث الملف النووي الإسرائيلي مؤجل الى ما بعد الانتهاء من عملية السلام، ودعم موسكو مشروع العقوبات الأميركي الجديد الذي أنقذ الموقف الأميركي الذي كان سيبدو عارياً تماماً لو انه فشل في تمرير المشروع بسبب معارضة موسكو او بكين. وفي حال نجاح هذه الوساطة وتبادل اليورانيوم في المرحلة الأولى فإن الوساطة التركية - البرازيلية ستستمر من أجل الخطوات المتبقية لتبادل ما تبقى من اليورانيوم الإيراني، فيما ستسعى طهران الى نسف مشاريع العقوبات وإلغاء ما هو قائم قديماً، والحصول من المجتمع الدولي على اعتراف بحقها في التخصيب على أرضها - في ظل مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية - بعد انتهاء هذه الأزمة، ليبقى فريق الجندي المجهول المرافق للوزير داود أوغلو في طائرته الخاصة على أُهبة الاستعداد من جديد لرحلات مكوكية جديدة ينسى فيها طعم النوم، خصوصاً مدير مكتبه غورجان ومساعده علي صاري قايا اللذين يحتالان على الوقت من أجل اختراع فسحة من الزمن تتسع لنشاط الوزير وحركته، وكذلك المتحدث باسم الخارجية بوراك أوزوغارغين والمستشار الإعلامي عثمان سرت اللذان يحاولان فعل المستحيل من أجل اطلاع الإعلام التركي على جهود داود أوغلو وضمان ان لا يتسبب أي تعليق اعلامي تركي خاطئ في هدم ما تبنيه الديبلوماسية التركية. اما في ما يخص الحديث عن سعي تركيا للعب دور اقليمي قيادي في المنطقة من خلال الوساطة في الملف النووي الإيراني، فأنه رهان صعب، إذ أن دولاً مثل فرنسا وروسيا فشلت في لعب هذا الدور، ما يعني أنه لا بد من وجود أسباب كثيرة وجيهة ومقنعة حملت تركيا على دخول هذه المغامرة التي لا يضمن احد خاتمتها غير الدافع للعب دور قيادي اقليمي، وإن كانت انقرة لا تخفي وجود هذا الدافع لكنها تقول إنه نتيجة طبيعية لتحركها وليس هدفاً.