رحبت إيران بالتقريرالاستخباراتي الأميركي الذي أثلج صدرها لقوله بأنها توقفت عن صنع السلاح النووي عام 2003 أي في العام الذي تم فيه غزو العراق. وللغرابة ان إيران تدرك أن التقرير أكد أن محاولاتها لصنع هذا السلاح لم تتوقف إلا في هذا العام بما يعني أنها فعلت ذلك تحت ضغط العدوان على العراق. لذلك لم يكن هناك مبرر كاف للفرحة بصدوره لأنه لم يبرئ ساحة إيران بصورة قاطعة. الموقف العربي كان صامتاً. أما واشنطن وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا فقد رأت في التقرير تعزيزاً لما اتهمت به إيران من قبل أنها تسعى لامتلاك سلاح نووي ما دامت قادرة تقنياً على تخصيب اليورانيوم بصورة مستقلة. والسلاح النووي وجد أو لم يوجد هو عنوان صراع قادم في المنطقة بعد خلو جعبة واشنطن من مبررات أخرى كتلك التي استخدمت في العدوان على العراق وتبرير احتلاله. وهو مبرر يسهم في تحقيق هدفين في وقت واحد، أولهما استمرار تفرد إسرائيل بالتفوق العسكري التقليدي والنووي وثانيهما الخلاص من النظام الإيراني وحرمانه من أن يخلق توازناً عسكرياً أساسه الرعب أو الردع النووي المتبادل مع إسرائيل، على رغم أن هذا الهدف ليس اولوية إيرانية. والصراع المحتمل مع إيران هو صراع مصالح وايديولوجيات ويتطلب إعداداً عسكرياً وتهيئة للرأي العام المحلي والدولي وإقناع دول المنطقة بمبرراته عندما يتحول من حرب باردة طالت أكثر من اللازم إلى حرب ساخنة. والولاياتالمتحدة على رغم تكرار قولها انها تفضل الحل الديبلوماسي تعد في الوقت نفسه للبديل العسكري وهو خيار مطروح بصورة جدية. ونظرة مقارنة للموقف الأميركي من المشكلة النووية مع كوريا الشمالية تبين الفرق بين المقاربة الأميركية لكل منهما. والصراع الغربي - الإيراني جذري وغير قابل للحلول الوسط إلا بشروط عدة كانت واشنطن تلح عليها كلما جاء ذكر إيران والسلام في المنطقة على ألسنة مسؤوليها، واقتصرت أخيراً على الموضوع النووي وحده. وهذا الصراع بدأ بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، أما قبل ذلك فقد كانت إيران في المحفظة الأميركية حليفا موثوقا به وشرطياً للخليج ولما وراء الخليج، وكان لإيران برنامج نووي سلمي في عهد الشاه لم يثر الغبار والشكوك. فإذا كان الغرب، وهو المهيمن على السياسة الدولية وصاحب المصالح الأكبر في الخليج، لن يقبل أن تملك احدى دوله السلاح النووي، فما بالنا إذا كانت هذه الدولة هي إيران التي لا تقف مشاكلها عند عتبة الغرب وإنما تقلقنا نحن العرب لفشلها في طمأنتنا بأن سياسة الشاه التي أدت إلى احتلال ثلاث جزر عربية يمكن أن تتغير؟ إيران من حقها أن يكون لها دور نشط في الخليج العربي وفي آسيا الوسطى، ولكن ليس على حساب الأمن العربي. حقاً ان للحتمية الجغرافية حساباتها وأحكامها التي تجعل السياسات القائمة على المصالح ثابتة إلى حد كبير وتسبق في ضروراتها الايديولوجيا والمثاليات المتغيرة، حتى ولو ارتدت قبعة الأممية الإسلامية. وقد عبر عن هذه الحالة قبل ربع قرن تقريبا مستشار المانيا الأسبق هلموت شميدت الذي وصف سياسة الاتحاد السوفياتي بأنها 70 في المئة جغرافياً والباقي ايديولوجيا. دول الجوار مجتمعة غابت عنها هذه الحقيقة. ولا يغرب عن البال أن في المنطقة العربية من يرى أن وجود قوتين نوويتين فيها أفضل أمنيا من تفرد دولة واحدة هي إسرائيل بامتلاك السلاح النووي. أما الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص فإن الموضوع النووي الإيراني يعتبر بالنسبة اليها موضوعا سياسيا واقتصاديا وليس أمنيا أو عسكريا فقط. لأن البديهي أن إيران وهي دولة تحسب حساباتها ومصالحها جيداً وليست ساذجة لكي تتورط في صراع من أي نوع مع إسرائيل، لن تستخدم سلاحها النووي ضد الولاياتالمتحدة أو أي من حلفائها وعلى رأسهم إسرائيل. فكل سلاح في أي صراع يستخدم لتحقيق مصلحة وطنية، ومصلحة إيران النهائية ليست في استمرار صراعها مع الولاياتالمتحدة وهي تدرك فداحة خسائرها الاقتصادية جراء العقوبات الأميركية المحدودة، فكيف سيكون الحال إذا أصبحت شاملة واشتركت في فرضها بقرار من مجلس الأمن كل الدول كما حدث مع العراق؟ الغرب يتبع سياسة ثابتة لم تتغير إزاء رفضه محاولة أي دولة في المنطقة امتلاك التكنولوجيا النووية غير إسرائيل. وكانت جنوب أفريقيا حكيمة في التخلي عنه لأن النظام العنصري مثل إسرائيل كان يشك في قدرته على البقاء من دونه وطالما أن هذا النظام قد قبل أن يتوارى، فإن المصلحة الوطنية للدولة الجديدة اقتضت التخلص منه ومن أكلافه. لقد استخدمت واشنطن وقوى أخرى العراق لشن حرب ضد إيران. وكانت هذه أول حرب بالوكالة، والمحطة الأولى في حرب الغرب ضد إيران. المحطة الثانية هي العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي والتخريب أحيانا داخل إيران وشن حرب باردة لم تتوقف. ومن بين مبررات هذه الحرب أن واشنطن ترى أن النظام الإسلامي في إيران ليس نظاما ديموقراطيا وأن الانتخابات المنتظمة التي تجري فيه والتداول السلمي للسلطة لا تجعل صناعة القرار بيد السلطة المنتخبة التي تمثل الشعب وإنما بيد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية غير المنتخب ومجلس صيانة النظام، وبالتالي فإن إرادة الشعب غير ذات قيمة. ولا يفوت الولاياتالمتحدة أن توظف ما يصدر عن إيران من كلام في الهواء عن إنكار حق إسرائيل في الوجود وتحرير القدس والتنبؤ بفنائها والتشكيك بعدد ضحايا المحرقة ضد إيران لخدمة سياسة المواجهة المرتقبة معها. وكلما علا صوت إيران أدركنا أنها متعطشة لتحقيق مصالحة وتسويات مع الولاياتالمتحدة تطال أكثر من ساحة عربية. أما الرئيس الأميركي فبعد أن حقق أهم أهداف رئاسته وهو احتلال العراق والتخلص من نظام صدام فإنه يريد إنجاز الخطوة التالية في جدول أعمال المحافظين الجدد وإسرائيل وهي القضاء على نظام الآيات في إيران لتخليص المنطقة نهائياً من الايديولوجيا القومية عربية كانت أو أممية إسلامية. وبعد أن قدمت كوريا الشمالية تنازلات استراتيجية في برنامجها النووي تحت ضغط الضعف الاقتصادي وقلة الحلفاء والضغط الأميركي والياباني والكوري الجنوبي والإقناع الصيني لم يبق من دول"محور الشر"سوى إيران التي كانت تعتقد أن مساعدتها غير المباشرة للأميركيين أو تواطؤها في العدوان على العراق واحتلاله سيشفعان لها ويقيانها من عدوان أميركا عليها، وعندما فشلت في ذلك باشرت بالهجوم على"الشيطان الأكبر"في عقر داره العراقي وشغلته هناك مما أجل الضربة الأميركية التي يبدو أنها مسألة وقت. ومنذ سنوات يتكرر سيناريو مماثل للسيناريو العراقي مع فارق أن إيران والأطراف الأخرى والوكالة الدولية للطاقة الذرية في حوار متصل وصبور حول البرنامج النووي الإيراني، وإيران تتعاون مع الوكالة بحذق ومهارة ودهاء تعاوناً لا يخلو من توترات ولكنه لم يصل إلى الطريق المسدود الذي تتمناه واشنطن وتل أبيب. والضرورة الحربية تتطلب إعلاماً يهيئ الرأي العام ليساند أو يتفهم أهداف شن حرب على إيران التي تصور أيضا كشيطان من نوع آخر. ولأن الحرب في سياسات القوى الكبرى هي سبب من أسباب الوجود فمن الضروري خوضها للحفاظ على القوة واحتكار التفوق التقني ولتجريب أحدث التقنيات العسكرية باستخدام ذرائع متجددة لا تستطيع الصين وروسيا استخدامها مع انهما قوتان نوويتان. ولأن المعرفة هي سر الوجود الآمن والضامن لاستمرار الازدهار الاقتصادي، فإن الغرب لا يريد أن ينافسه في السوق التكنولوجية الدولية المدنية والعسكرية كيان غير صديق. وقد وضح ذلك بعد فضيحة المزاعم الأميركية والبريطانية بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل وأسلحة نووية لتبرير الحرب ضده . منذ ظهور التقرير الاستخباراتي الاميركي لم تفوت كل من أميركا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا فرصة للتأكيد على صحة موقفها من أن السلاح النووي الإيراني حقيقة محتملة. أما إيران فلا تزال حتى الآن تتبع سياسة الغموض المخيف لجيرانها قبل أي طرف آخر. وكان حرياً بها بعد أن وصف وزير الدفاع الأميركي مؤخراً البرنامج النووي الإسرائيلي بأنه"لا يشكل تهديدا للمنطقة مثل البرنامج الإيراني"أن تفتح أبواب منشآتها النووية للتفتيش الدولي من دون تحفظ وأن تقبل بتخصيب اليورانيوم خارج اراضيها. وإذا قامت ايران بذلك فإن الجميع سيكون مع حقها في المعرفة النووية التي لا تخيف جيرانها ولا تهدد أمنهم. پ * كاتب يمني.