كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنت ان العام المقبل 2008 سيكون "سنة دولية للغات" فَنِصف لغات الأرض، أو 3500 لغة من أصل سبعة آلاف، مهدد بالاندثار، كما عرضت أمس، الا ان اللغة العربية ليست منها، فهي ستظل موجودة ما وجد إسلام ومسلمون وقرآن كريم. منظمة اليونيسكو وعدت بأن تضطلع بدور قيادي في حماية اللغات، بعد ان أُسندت اليها مهمة تنسيق الأنشطة المتعلقة بسنة اللغات. وفي حين أرجو لها النجاح فإنني أعرف ان المهمة صعبة جداً، لأن بعض اللغات منطوق، أو محكي، إلا انه غير مسجّل، ولا أبجدية له، فإذا مات آخر الناطقين بمثل هذه اللغة ماتت اللغة معه. وقد قرأت عن لغة اسمها امورداغ لم يبقَ من المتكلمين بها سوى تشارلي مانغولدا، وهو من سكان أستراليا الأصليين. كنتُ في باريس لحضور احتفال في مناسبة مساهمة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي، في تحسين حضور اللغة العربية في اليونيسكو، وقادني الحديث عن اللغة الى البحث، فقد شهد الصيف الماضي ضجة أثارها نشر دراسة للجمعية الجغرافية الوطنية ومعهد الألسنة الحية للغات المهددة، نبهت الى خطر انقراض نصف لغات العالم خلال أجيال قليلة. وإذا كان من القراء من يريد تفاصيل أوسع فهو يستطيع ان يجدها في عدد تشرين الأول أكتوبر من مجلة"ناشونال جيوغرافيك". باختصار، الدراسة حددت خمس مناطق حول العالم تنقرض فيها اللغات بسرعة كبيرة، هي شمال أستراليا، ووسط أميركا الجنوبية، والجزء الأعلى من أميركا الشمالية على المحيط الأطلسي، وشرق سيبيريا، وولاية أوكلاهوما وجنوب غربي الولاياتالمتحدة. خطر الانقراض هو الوجه الآخر، السلبي، للتقدم البشري، فاللغات ليست وحدها مهددة الا أن الخطر عليها أكبر على أساس انه يصل الى 50 في المئة. والتهديد الآخر يشمل خمسة في المئة من الأسماك، وثمانية في المئة من النبات و11 في المئة من الطيور، و18 في المئة من الثدييات. كيف تنقرض لغة؟ ربما كان الأسهل ان نشرح كيف لا تنقرض، فإذا كان هناك إقبال من البالغين على تعليم صغارهم لغتهم الأم، فلا خطر على هذه اللغة، ويتبع هذا انه اذا ابتعد قوم عن لغتهم، فإنها سرعان ما تموت، والسؤال عند ذلك لماذا يبتعد ناس عن لغتهم أو يتنكرون لها. الخبراء أعطوا سببين رئيسيين، الأول ان يكون أصحاب اللغة البدائية أو القديمة، يتكلمون لغتين، واللغة الثانية، ولنقل أنها الانكليزية، لغة عصرية ايجاد عمل من طريق اتقانها أسهل؟ وهنا يختار الأهل ان يركزوا على اللغة القوية ليعطوا أبناءهم فرصة أفضل للنجاح في الحياة، فلا يمر جيلان أو ثلاثة حتى يكون أصحاب اللغة قد نسوها. أما الثاني فهو ان تدخل على اللغة الضعيفة أو البدائية كلمات وعبارات ومصطلحات من اللغة الطاغية، وتضيع اللغة الأولى تدريجياً في زحمة الحضارة، وعدم قدرتها على توفير الكلمات اللازمة للعيش العصري. مرة ثانية، اذا شاء القارئ مزيداً من التفاصيل فهي متوافرة، وكنتُ في بداية السنة اشتريت كتاباً عنوانه"عندما تموت اللغات: اندثار لغات العالم وتآكل المعرفة البشرية"من تأليف ك. ديفيد هاريسون، وإصدار مطبعة جامعة أكسفورد، غير انني أعترف بأنني لم أقرأه، وأنا أركز على كتب النكد السياسي التي أحتاج الى قراءتها بحكم العمل، الا انني كنتُ قرأت عرْضاً للكتاب جعلني أطلبه، حذَّر كما فعَلَتْ الدراسة اللاحقة من انقراض لغات محلية في مناطق معينة من العالم، يختلف بعضها كثيراً عن بعض، فهناك لغات مهددة في غابات الأمازون، وفي سهول سيبيريا الثلجية القاحلة. لا بد ان بعض اللغات مهدد في الوطن العربي، مثل شمال غربي أفريقيا والسودان. غير ان لا تهديد للغة الآرامية التي لا يزال يتكلم بها أهالي صيدنايا والقرى المجاورة في سورية، فهي لغة السيد المسيح الذي لم يكن يتكلم العبرية، لذلك سيظل بين المسيحيين المحليين من يتقنها ويعلم أبناءه كيف يحمونها بعده. وكانت الآرامية هي لغة الفيلم"آلام السيد المسيح"الذي أخرجه الممثل ميل غيبسون قبل سنتين، وأثار ضجة هائلة في الأوساط اليهودية لبعض العبارات فيه. وأعود الى العربية التي شكا لي أستاذي وصديقي هشام شرابي يوماً من جمالها، فقد قال ان النقاش يبدأ حول موضوع ثقافي أو سياسي، ثم ينشغل الجميع بموسيقى اللغة وينسون الموضوع الأصلي، وهم يقولون: قفا نبكِ، أو شيئاً مثل ذلك. الموسيقى أوضح في الشعر، أو أكثر وقعاً، وحسّان بن ثابت قال: وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه / على المجالس إن كَيْساً وإن حمقا وإن اشعر بيتٍ أنت قائله / بيت يقال اذا أنشدته صدقَا العلامة البيروني قال:"انها اللغة العربية، ومن خلال الترجمة حوّلت العلوم إلينا ووجدت مكانتها في قلوبنا. جمال اللغة العربية سار مع العلم في شراييننا وعروقنا". والبيروني فارسي الأصل ولد في خوارزم، وهي جزء من أوزبكستان الآن. ولا بد ان العلماء والفلاسفة اليهود في الأندلس فكّروا مثل تفكيره، وهم يستعملون العربية في ما كتبوا على رغم اتقانهم العبرية. أقول: كان زمان، أما اليوم فاللغة ليست في خطر، وإنما الأمة.