يشير اهتمام المجتمع الدولي بنزاع الصحراء الى أنه يدعم جهود البحث في حل سياسي وفاقي يحفظ ماء وجه الأطراف كافة. ولا يعني صدور المزيد من المواقف المؤيدة لهذا التوجه من باريس ومدريد وواشنطن سوى أن لا بديل عن هذا الخيار، لذلك فرض على مؤتمر جبهة"بوليساريو"في تيفاريتي أن ينتهي من دون اطلاق رصاصة واحدة. وثمة فرق بين أن يكون التلويح بمعاودة حمل السلاح موجهاً لاحتواء خلافات داخلية وبين أن يخترق جدار التسوية السلمية. غير أن ما حدث أن أعلى الأصوات التي ارتفعت منادية بتغليب الحل السياسي صدرت من منتسبين الى"بوليساريو"، كونهم الأقرب إلى المعاناة الإنسانية ولا مجال للتشكيك في ولائهم للجبهة، وسواء كان الانصات إلى هذه الأصوات بدوافع موضوعية أو تكتيكية، فالأهم أن"بوليساريو"الأمس ليست"بوليساريو"اليوم بالنظر الى ظروف اندلاع الصراع وتأثير الهيمنة الايديولوجية واستخدام تناقضات أنظمة المنطقة في الحرب الباردة. في الخلفيات التاريخية أن جبهة"بوليساريو"استلهمت أفكارها وتجربتها من حركات تمثلت الأهداف نفسها تقريباً كما في ثورة ظفار في سلطنة عمان أو الحركة المسلحة في جنوب السودان أو صراع الإخوة الأعداء في أوغادين. وكان التشابه مثيراً في أجندة منتصف سبعينات القرن الماضي. غير أن هذه الحركات آلت إلى تطورات، أقربها أن عُمان استوعبت تحديات المرحلة وجنبت الخليج العربي تداعيات توتر لا يزال يلقي بظلال قاتمة على منطقة شمال افريقيا، فيما الوضع في السودان يراوح مكانه على ايقاع اقتسام الثروة والسلطة. ولم يتخلص القرن الافريقي بعد من أسباب أزماته وإن بدرجة استبدلت زحف الدب السوفياتي بأطماع القطب الأميركي، بيد أن الأهم أن معادلات عودة الوعي أثرت في مسار حركات كانت تستخدم ذريعة في صراع أكبر. ولعل ما تحتاجه"بوليساريو"ليس التلويح بحرب لم تربحها يوماً، وإنما بممارسة قدر أكبر من النقد الذاتي في تقويم تجربتها بعد أكثر من ثلاثة عقود أعاقت طموحات الفضاء المغاربي في السلم والاستقرار والاندماج في تحولات العصر. فليس اساسياً أن تحتمي بما تعتبره دفاعاً عن مبدأ تقرير أو غيره من الالتزامات، ولكن الأساس أن تجنح إلى أفضل منهجية غير مجزأة تحقق للمنطقة ما تصبو إليه من أهداف الانفراج والتقارب والتفاهم التي تكفل إذابة الخلافات غير الجوهرية. لا تقع مسؤولية استمرار النزاع على"بوليساريو"وحدها، فهي جزء من منظومة تطاول العلاقات الاقليمية والخلفيات التاريخية والايديولوجية ومجالات المنافسات والصراعات. غير أن الرباط اقتنعت أن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، لذلك استبدلت منطق الضم الكامل لما تعتبره أراضي تابعة لها بصيغة وفاقية أقرب إلى تفهم المجتمع الدولي، محورها أن لا استقلال كاملاً ولا ضم كاملاً، وإنما حكم ذاتي موسع يكفل للسكان المعنيين إدارة شؤونهم المحلية ديموقراطياً. ذلك أن الجزء الكبير من الثمن الذي تدفعه الرباط، أكان تنازلاً أم خياراً، يهون أمام ضرورات استتباب الأمن والاستقرار ونزع فتيل الانفجار. وبالتالي فهذا التغيير يفترض أن يوازيه تطور في مواقف الطرف الآخر. بيد أن هذا التطور يكمن أساساً في قرار الذهاب إلى المفاوضات المباشرة، كون الرباط التي ما فتئت تردد أن نزاع الصحراء خلاف جيوسياسي بينها وبين الجزائر، قبلت الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع"بوليساريو"، وارتضت قرار مجلس الأمن الذي يدعو أطراف الحوار، ومن بينها الجزائر، الى المساعدة في دعم المفاوضات. والحال أن موقف الجزائر لناحية ترك"بوليساريو"تعقد مؤتمرها الأخير في تيفاريتي، خط التماس مع الجدار الأمني للقوات المغربية، ينم عن رغبة في تكريس ثنائية النزاع بين"بوليساريو"والرباط. ثلاثة معطيات جديدة لا يستهان بأهميتها أصبحت تؤشر إلى دخول نزاع الصحراء منعطفاً جديداً: ارتفاع أصوات من داخل"بوليساريو"تحبذ التسوية السلمية على ايقاع الحل السياسي، اقتراح المغرب منح اقليم الصحراء حكماً ذاتياً موسعاً، وأخيراً أخذ الجزائر مسافة حيال هذه التطورات. والايجابي في هذا المسار الذي بات يحجب فرقعة المدافع أنه ينسجم وتوجهات المجتمع الدولي الرامية إلى حل المشكلة سياسياً، وبعد أن كان التوتر مطلوباً لأهداف استراتيجية تروم مصالح الدول الأجنبية في المنطقة، وبخاصة على صعيد مظاهر المنافسة الأوروبية - الأميركية في منطقة النفوذ التقليدية لكل من باريس ومدريد، على أساس الإبقاء على التوتر، لكن من دون الوصول إلى مسافة التدهور، التقت انشغالات هؤلاء الشركاء حيال ما يعرف بالحرب على الإرهاب عند محور تسريع الحل السياسي لقضية الصحراء وايلاء اهتمام أكبر باستحقاقات الأمن والاستقرار، وهذا تطور يؤشر الى ما تعرفه منطقة شمال افريقيا برمتها من تجاذبات، لا يمكن اغفال تأثيرها على القضية الصحراوية التي أعاقت البناء المغاربي أمداً طويلاً. فقط يتعين الإقرار بأن كل أطراف نزاع الصحراء يمكن أن تربح رهان التسوية السلمية بقليل من نبذ الانانية وكثير من التفاؤل في النظرة إلى المستقبل.