"من كان يصدق ان مسرح الدولة في مصر سيسعى الى ضم وجذب فنانين مثل الممثل الكوميدي محمد نجم والراقصة فيفي عبده"عبارة قالها أحد نقاد المسرح المصريين متحسّراً على المجد الغابر للمسرح. وسارداً حكاياته مع كتّاب بموهبة ميخائيل رومان ومحمود دياب ونعمان عاشور، ومخرجين مثل نبيل الألفي وكرم مطاوع وسعد أردش. ولكن عندما تسأله عن تفسير ما يجرى؟ يقدم لك واحدة من الصحف اليومية المصرية التي تعلن عن المسرحيات التي يقدمها مسرح الدولة المدعوم من وزارة الثقافة. في الصحيفة اعلانات تشير الى ان المسرح يقدم يومياً ما يزيد على 8 عروض مسرحية، موزّعة على مسارح مختلفة بين القاهرةوالاسكندرية. وتشير الاحصاءات المرفوعة الى المجلس الأعلى للثقافة، الذي يرسم السياسة الثقافية، في حزيران يونيو الماضي، الى وجود 8 فرق القومي، الحديث، الطفل، العرائس، الطليعة، الكوميدي، الشباب تابعة لمسرح الدولة، وقدمت 1601 ليلة عرض وحققت إيرادات بلغت 1,686261 مليون جنيه حوالى 320 ألف دولار من خلال بيع 100107 بطاقة دخول. لكن الصحيفة نفسها، تشير الى أن فكرة الاستعانة بفيفي عبده ومحمد نجم، لم تعد قادرة على جذب الجمهور بعد رحيل السياح العرب عن القاهرة وانتهاء موسم الاجازات الصيفية. كما لم تعد مغرية للنقاد الذين استهدفوها بالنقد اللاذع في الايام الاولى للعروض. الامر الذي جعلها في كل الاحوال عروضاً مثيرة للجدل، أي تجذب الاهتمام. فبعد تحقيق إيرادات مرتفعة، عادت إيرادات تلك الاعمال مرّة أخرى إلى التراجع والخسارة التي لا تمكنها من تغطية كلفتها الانتاجية. فحتى نهاية الشهر الماضي كانت إدارة البيت الفني للمسرح في مصر تقدم سبع مسرحيات هي:"روايح"لفيفي عبده التي تعرض على المسرح العائم. وكانت تحقق 11 ألف جنيه يومياً، ووصلت إيراداتها إلى ألفي جنيه في اليوم الواحد في الوقت الذي تتقاضى فيفي عبده بطلة العرض 60 ألف جنيه شهرياً، إضافة إلى خمسة آلاف جنيه خاصة بملابس الرقص، فضلاً عن رواتب بقية فريق العمل وفرقة فيفي التي يزيد عدد أفرادها على 13 عازفاً. أما مسرحية"الإسكافي ملكاً"التي تقدم على المسرح القومي ويلعب بطولتها الممثل ماجد الكدواني، فتدنت إيراداتها في الفترة الأخيرة. فبعدما كانت تحقق 3500 جنيه يومياً وصل متوسطها حالياً إلى 600 جنيه يومياً، ويحصل ماجد الكدواني بطل العرض على 45 ألف جنيه في الشهر. ولا يزال مسرح"السلام"يواصل عرض مسرحية"يمامة بيضا"التي يلعب بطولتها المطرب علي الحجار وتحقق منذ عرضها إيرادات منخفضة بدأت بأربعة آلاف جنيه، وتحقق حالياً في المتوسط 500 جنيه، في الوقت الذي يحصل علي الحجار على 70 ألف جنيه في الشهر، كما تحصل المطربة هدى عمار على 20 ألف جنيه. الأمر نفسه تكرر على خشبة مسرح"ميامي"مع مسرحية"ولاد الذين"التي اقتصرت أيام عرضها على أربعة فقط في الأسبوع، بعد أن وصل متوسط إيراداتها في اليوم إلى 450 جنيهاً وكانت تحقق 4 آلاف جنيه في الليلة. وذلك على رغم ان المسرحية تحمل توقيع الكاتب أسامة أنور عكاشة. ويبرّر صنّاع تلك الاعمال تراجع الايرادات بالقول:"إن قلة الإعلانات وضعف الموازنة المخصصة لإنتاج عروضهم وراء تدني الإيرادات والإقبال الجماهيري". في المقابل يؤكد مسؤولون في وزارة الثقافة أن"هدف مسرح الدولة الرئيس تقديم خدمة ثقافية للجمهور". أما عن تحقيق الأرباح المادية فهذا هدف ثانوي"، هذا ما صرّح به الممثل أشرف زكي رئيس البيت الفني للمسرح، للصحف وعبر أحد البرامج التلفزيونية المحلية، من دون ان يدرك حجم التناقض بين ما يعلنه وما يكشف عنه مستوى تلك الاعمال وتاريخ نجومها. لكن الناقدة المسرحية عبلة الرويني تؤكد ل"الحياة"أن مسرح الدولة حالياً يسير في الطريق الذي رسمته وزارة الثقافة والذي يقوم على دعم التوجه نحو الاستهلاك، أكثر من التفكير في الانتاج الفني القائم على رؤيا ترى أن المسرح في الاساس هو وجهة نظر ورؤية جمالية للعالم". وتشير الرويني التي تتابع المسرح بدأب منذ اكثر من 20 سنة، الى أن هناك إصراراً على اتباع سياسة تتسم بالتخبط تجمع بين فكرة استقطاب نجوم القطاع الخاص مثل نجم وفيفي عبده، لجذب السياح العرب بعد ان اهتز حضور المسرح التجاري. وتضيف:"هناك فكرة أخرى ترى انه لا تناقض بين من يفتح الباب لفيفي تحت شعار"البحث عن الايرادات"، وبين من يدعو الكبار لتقديم عروض"المسرح الجاد"الذي يمكّن المسؤولين من الحديث عن"رسالة الفن"عبر وسائل الاعلام". لكن الرويني ترى أن هذا المسرح محاصر انتاجياً، وكأن قدره أن يبقى مربوطاً بجمهور نُخبوي مهدّد بالزوال". وفي هذا المشهد الواسع يبدو ان مشكلات مسرح الدولة لم تعد كما كانت مقتصرة على مشكلات انتاجية او معرفية فنية ترتبط بالرسالة التي تحملها عروضه، وانما امتدت الى ساحة الرقابة التي رأت في تلك العروض ساحة مثالية للاعلان عن حضورها ولأسباب مختلفة. فمسرحية مثل"اليهودي التائه"التي قدمها مسرح"الهناجر"المغلق للترميم حالياً، عن نص ليسري الجندي ومعالجة إخراجية لحسن الوزير، أوقفت منذ أكثر من 8 شهور لأسباب سياسية مجهولة ترتبط بطبيعة العلاقة مع اسرائيل، وهي العلاقة التي يستهدفها العرض في شكل أو آخر. واذا كانت هذه المسرحية قد ذهبت ضحية ضرورات السياسة الخارجية، فأن بعض أغنيات ومشاهد مسرحية"يمامة بيضا"لعلي الحجار ذهبت ضحية ضرورات السياسة الداخلية. أما جوهر المفارقة في أداء الرقابة التابعة لوزارة الثقافة، فتأتي من إصرار موظفيها على تسجيل ملاحظات شبه يومية ترتبط بملابس فيفي عبده"الساخنة"وهي تؤدي القليل من الرقص الشرقي في مسرحية"روايح". والمتأمل في الوقائع الأخيرة المرتبطة بسجلات المسرح المصري، يرى ان ثمة ما يشير الى أزمات رقابية متوقعة قد تواجه العروض المعدّة للموسم المقبل. وتردّد ان أزمة ما أثيرت بين المؤلف أبو العلا السلاموني وشريف عبداللطيف مدير المسرح القومي بسبب منع عرض مسرحية الاول التي تحمل عنوان"الحادثة بعد 11 سبتمبر"، فضلاً عن المشاكل التي عطلت عرض مسرحيتي"بلقيس"للمؤلف محفوظ عبد الرحمن و"مصر الجديدة"لسمير العصفوري على المسرح نفسه، اذ حُكي ان هناك نية لعرض نص"بلقيس"على الازهر الشريف. وعلى رغم نفي مدير المسرح القومي لهذه الشائعة، الا ان قرار البيت الفني بتشكيل مكتب فني لكل مسرح مكون من 6 أعضاء، يؤكد ان هدف اللجنة الاساسي هو الوصول الى مساحة من التفاوض تجمع اصحاب الاعمال ورجال مسرح الدولة على ارضية مشتركة تسمح بتمرير العروض"خالية من الدسم". والى ان يتحقق ذلك يبقى القول ان مسرح الدولة في مصر لم يعد لديه لإثبات حضوره سوى عروض"الريبرتوار"التي تبث الحياة في عروض تنتمي الى تاريخ أكثر اشراقاًً. فخلال موسم العام الماضي، قدّمت 5 مسرحيات هي"أهلاً يا بكوات"عن نص لينين الرملي و"رجل القلعة"لأبو العلا السلاموني و"الملك هو الملك"لسعد الله ونوس و"الناس اللي في التالت"لأسامة انور عكاشة و"الملك لير"التي تعرض حالياً في الاسكندرية بايرادات مرتفعة نسبياً. والى جانب هذه العروض هناك القليل الذي يمكن ان تشاهده في عروض"مسرح الطليعة"المحاصرة بالإهمال وصراخ الباعة الجوالين وسط الضوضاء في ميدان العتبة.