بأعجوبة تمكن مندوب قناة فضائية من الفرار، ومغادرة غرفته في فندق الضيافة، وسط مدينة البصرة، قبل مداهمة جماعة مسلحة للفندق، ولم يكن أحد من موظفي الفندق يعلم بأن نزيل الغرفة 143 مطلوب لهذه الجماعة بتهمة الكتابة عن الشناشيل في البصرة القديمة. كان ذلك في الصيف الماضي عندما كلفت فضائية مندوبها في البصرة بتصوير تحقيق عن بيوت الشناشيل التراثية المعروفة التي تشكل مع النخيل وشط العرب والشاعر بدر شاكر السياب أهم ميزات هذه المدينة الجنوبية، والتي تحولت من دور لسكن الطبقة الارستقراطية في نهاية القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين إلى بيوت ل"الرفاق"الكبار في حزب البعث، ومن ثم إلى مقرات للأحزاب الدينية حالياً. ومن المفارقات أن البيت الذي بناه أمير مدينة المحمرة الشيخ خزعل الكعبي في محلة الباشا، وكانت منه تدار شؤون الناس. والأدوار السياسية في حياة مدينتي البصرة والمحمرة نهاية القرن التاسع عشر، تحول بعد ترميمه منتصف سبعينات القرن الماضي دائرة فنية ثقافية سميت ببيت المقام العراقي، وهو نوع من الغناء القديم، وكانت دائرة السينما والمسرح قدمت على خشبته نشاطات مسرحية وفنية. غير ان المتشددين من قادة الكتل والأحزاب الدينية، استحوذت بدورها على بيت الشيخ خزعل الكعبي احد أجمل بيوت الشناشيل في المدينة، بعدما"أفرغوه"من كل ما فيه لتنطوي صفحة من صفحات الفن المعماري الجميل. ذات يوم حين بلغت البصرة ذروة ازدهارها الاقتصادي، في نهاية القرن السابع عشر، أضافت بيوت الارستقراطيين من التجار وملاكي الأرض المشيدة واجهاتها بالشناشيل على الأنهار الكثيرة، صفة جديدة لمدينة النخيل فصارت تدعى مدينة الشناشيل التدليل على الهوية الجمالية للمدينة. والشناشيل طراز معماري اعتمده البصريون لتزيين بيوتهم، ولدخول الهواء البارد إليها أيام الصيف الحار، وهي على شكل مقرنصات زخرفية، واشكال هندسية برع بها النجارون والبناؤون آنذاك. ومن شرفة دار جده في ابي الخصيب لمح الشاعر بدر شاكر السياب،إحدى بنات الباشا الجلبي فكتب قصيدته المشهورة"شناشيل ابنة الجلبي"التي حملها اسم أحد أهم دواوينه الشعرية. ومن بعده، وردت الشناشيل في الكثير من القصائد والقصص والروايات واللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية للأدباء والفنانين العراقيين. غالباً ما تكون الشبابيك ذات المشبكات الخشبية البارزة على صورة مثلثات مسننة متباينة، متوافقة مع القيم الاجتماعية المحافظة، فشكل الشبابيك المطلة على الأزقة والشوارع تسمح لأهل الدار ان يروا الخارج، بينما لا يستطيع المارة ان يروا ما في الداخل، وهي تمنح نزلاء الدور مزيداً من الألفة والود مع الجيران. وكان وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعوائل ان تتبادل التحيات والاخبار وشتى الأحاديث من خلال الشناشيل، فبيوت ذلك الزمان كانت متلاصقة متداخلة.