تعتبر مدينة البصرة احدى أجمل المدن العراقية لما تحويه من معالم بارزة، وهي واحدة من أقدم المدن الإسلامية وأشهرها، وتعد أول مدينة عربية اسلامية أسسها المسلمون منذ بداية الفتوحات الإسلامية وذلك في العام 14ه 636م. وتبعد عن مدينة بغداد نحو 540كلم جنوباً، ويبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف نسمة، وتعتبر منفذ العراق الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي بحراً عن طريق مينائي أم قصر والفاو. وأصبحت مدينة البصرة في حقب زمنية من تاريخ العراق والعالم الإسلامي مركزاً حضارياً مهماً حيث شهدت حركة ثقافية وعلمية وعمرانية، وانتشرت في أرجائها مختلف صنوف فنون العمارة الإسلامية ومنها نجارة الخشب وزخرفته، وصناعة الزجاج، وأظهر النجارون البصريون تفوقاً في الدقة والمهارة في أعمال الزخارف الخشبية والنوافذ خصوصاً في الألواح الخشبية والمشبكات التي ظهرت بخصائص متميزة في صناعة الشناشيل المشربيات التي تعتبر من الفنون الإسلامية الرائعة والتي اشتهرت بها مدينة البصرة في تزيين واجهات بيوتاتها وعمارتها التقليدية، وتعد الشناشيل من المعالم البارزة في هذه المدينة الى جانب معالم أخرى تميزت بها كعمارتها الدينية وكثافة نخيلها وشط العرب الذي يمر فيها والأنهار التي تتفرع منهُ. والشناشيل هي الشرفات الخشبية المزخرفة المعلقة والمصطفة على الطريق العام مؤلفة حركة انسيابية تتناغم مع نخيل البصرة الممتد الى يسار شط العرب ويمينه مكونة قناديل زينت بها هذه المدينة حيث منحتها طابعاً سحرياً قل أن نجد مثيلاً لها في أي مدينة أخرى، ولطالما تحدث عنها الأدباء والشعراء ومنهم الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته الرائعة "شناشيل ابنة الجلبي". وجاء في فرهنك جديد المعجم الجديد لفريدون كار، فارسي-فارسي، ان الشناشيل كلمة فارسية مركبة من "شاه نشين" بمعنى محل جلوس الشاه. ويذكر اللغوي والمؤرخ العراقي الدكتور مصطفى جواد في مجلة سومر، المجلد 24، صفحة 244، ان الشناشيل يطلق عليها أيضاً بالأجنحة والرواشن، مفردها روشن، وهي لفظة فارسية أيضاً ومعناها الضوء. وتعني الروشن كذلك: الرف، والكوّة، لكنها لا تؤدي المعنى المراد هنا. والراجح ان الروشن قد استخدم منذ العصور الإسلامية الأولى في مدينة البصرة، وقد ورد في نهج البلاغة بشرح الإمام محمد عبده الجزء الثاني، صفحة 9، من كلام للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة قوله: "ويل لسِكككم أزقتكم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة الميزاب"، وقد شرح الإمام محمد عبده أجنحة الدور التي شبهها الإمام علي بأجنحة النسور بأنها رواشينها. وقد انتقل هذا الفن الرائع من مدينة البصرة الى باقي المدن العراقية الأخرى وبالخصوص المناطق الجنوبية والوسطى منها، وكانت العاصمة بغداد من أكثر المدن تأثراً بالشناشيل البصرية. وخلال فترة الانتداب البريطاني على العراق التي بدأت سنة 1917م، انتشرت الشناشيل بصورة لافتة للنظر في مدينة البصرة والمدن العراقية الأخرى، وذلك نتيجة استقدام عدد كبير من الهنود المهرة والفنيين في صناعة وزخرفة الخشب الذي كان يستورد من الهند. ولم يبقَ من الشناشيل البصرية الا العدد القليل في الأحياء القديمة التي استطاعت الصمود حتى الآن نتيجة التدمير والخراب التي سببتها الحروب وبخاصة خلال السنوات الثمانية من الحرب العراقية - الإيرانية التي كانت تدور رحاها حول هذه المدينة، وحرب الخليج 1991م، وكذلك على يد قوات الحكومة العراقية ابان انتفاضة أهالي البصرة والمدن العراقية الأخرى في آذار مارس العام 1991م، بالإضافة الى الزحف العمراني الحديث الذي أدى الى تغيير الكثير من معالمها العمرانية الأصيلة. ولكي نتبين أهمية الشناشيل ومكانتها في البيوت البصرية، لا بد لنا أن نتعرف على أهم العناصر الأساسية المكونة لها. والبيوت البصرية شأنها شأن البيوت في المدن العراقية، تتميز بخصائص تخطيطية وانشائية ذات طابع معماري واحد يتمثل في احلال الساحة الداخلية المكشوفة التي يطلق عليها بالعامية "الحوش" المكان الأول في التخطيط، وعادة ما تمثل هذه الساحة محور البيت التي تنتظم حولهُ معظم الغرف والمرافق الأخرى. ومن الواضح انه تقليد بنائي عراقي قديم تعود بداياته الى فترة العهد البابلي القديم مطلع الألف الثانية قبل الميلاد حيث عثر على بقايا دور سكنية في أحد أحياء مدينة "أور" القديمة التي تقع الى الغرب من مدينة البصرة تبرز الساحة الوسطية في مقدمة العناصر التصميمية، وغالباً ما تتوسطها حديقة صغيرة تزرع بشجرة واحدة أو أشجار عدة وبعض شجيرات الزهور. وتعتبر الساحة الوسطية أيضاً بمثابة قاعة مكشوفة ومحجوبة عن الأنظار، بالإضافة الى الدور الذي تلعبه في توزيع الإضاءة الطبيعية للغرف المحيطة بها. ويعرف القسم الأمامي من البيت البصري والذي يضم مجالس الضيوف ب"البراني"، أما القسم الخلفي والمحيط بالساحة الوسطية والذي يضم الغرف المخصصة لأفراد العائلة والمرافق الملحقة بها ب"الدخلاني". ومن الخصائص المميزة للبيوت البصرية وجود المدخل المنكسر المعروف ب"المجاز" الذي يوصل المدخل أو "الباب" بالساحة الداخلية المكشوفة الحوش. والهدف منه هو عزل فضاء الساحة الداخلية عن الشارع أو الزقاق، وترطيب الهواء عبر اختراقه المجاز. ومن العناصر الجوهرية في تصميم البيت البصري توفير ما يسمى ب"الطارمة" المسقفة والمفتوحة من جهة الساحة الداخلية وهي الديوان المصغر للبيت. وتستعمل أرضية "الطارمة" لتناول وجبات الطعام وشرب الشاي وبخاصة في فصل الصيف. ويتميز البيت البصري أيضاً بوجود مكان للراحة والهدوء يطلق عليه "السرداب"، وهو اصطلاح فارسي مؤلف من مقطعين "سرد" أي بارد و"آب" أي ماء، وتقضي فيه العائلة ساعات طويلة في أيام الصيف الحارة، ويتصف بجدرانه السميكة وانخفاض مستوى أرضيته عن مستوى أرضية البيت، قد يصل في بعض الأحيان الى أمتار عدة مما يساعد في حمايته من الحرارة الشديدة. وتجري تهوية السرداب بواسطة فتحات صغيرة جانبية تكون عادة في مستوى أرضية الساحة الداخلية المكشوفة، وكذلك من أبواب المدخل والدرجات السلالم المؤدية اليه. وهناك مجار عمودية للتهوية مبنية من الطابوق الآجر والجص، وهي عبارة عن فتحات داخل الجدار وفوهتها في أعلى سطح البيت تنقل الهواء من الأعلى عبر هذه الفتحات الى مستوى منخفض في أرضية السرداب فيساعد الماء الذي يرش على أرضية السرداب بترطيب الهواء الخارجي الجاف الآتي من السطح عبر هذه الفتحات، وتسمى هذه المجاري العمودية بالملقف الهوائي، ويطلق عليها محلياً "البادكير" وهي كلمة فارسية مؤلفة من مقطعين "باد" أي هواء و"كير" أي جالب أو ساحب. ومن أهم المواد الأولية المصنعة محلياً والمستعملة في بناء البيوت البصرية الطابوق الطيني المفخور الآجر الذي يعتبر العنصر الرئيسي في البناء، وذلك لوفرة مادته الأولية ولسهولة صناعته وقلة تكلفته. ويمتاز أيضاً بمقاومة جيدة وقدرة كبيرة على عزل الحرارة والصوت. ومن الخصائص التي امتاز بها البيت البصري بصورة عامة ارتفاع سقف غرف الطابق الأول بحيث لا يتجاوز أربعة أمتار. وهناك مميزات انشائية أخرى منها كثرة الشبابيك في الطابق الأول وارتفاعها خصوصاً في الواجهات التي تطل على الأزقة والشوارع. أما ارتفاع الطابق الأرضي فيكون عادة أقل من الطابق الأول، ويتميز أيضاً بنوافذه التي تكون في الغالب فوق مستوى النظر وهي تطل على الأزقة والشوارع. الشناشيل من الفنون المعمارية تعتبر الشناشيل من الظواهر الرئيسية والمألوفة في البيوت البصرية، والتي تدل على الثراء، ففي بيوت الميسورين تتحول الشناشيل الى قطع فنية رائعة، وذلك لجمال نقوشها الخشبية التي تتخللها قطع زجاجية صغيرة ملونة. تشيد الشناشيل أساساً على قسم من بناء الطابق الأول يضاف الى المساحة الأساسية للدار، وذلك عن طريق احداث بروز يستند الى روافد خشبية أو معدنية، وعندما يتسع البروز نسبياً يعمد المعمار الى تدريج ألواح الخشب أو الروافد ليمكنه الحصول على نقاط استناد قوية تشيد فوقها الشناشيل، ويتراوح البروز عادة ما بين متر واحد أو أكثر بقليل. ويكون بناء الشناشيل من الخشب بدلاً من الآجر أو الحديد وذلك للتغلب على مشاكل الثقل في توسعة البناء، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرفة عن طريق تقليل كمية الحرارة الواصلة الى البيت دون أن تمنع الضوء والهواء من الوصول الى غرف الشناشيل من خلال الفتحات الخارجية المشبكة. وكذلك تحفظ للسكان حرمتهم فهي مصممة لحجب الرؤية من الخارج للجالسين في هذه الشرفات أو الغرف الملحقة بها. والشناشيل المصطنعة على طول الطريق العام توفر مظلة طويلة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف وأمطار الشتاء. وستبقى شناشيل مدينة البصرة على الرغم من ازالة الكثير منها شاهداً على جمالية العمارة البصرية وتقدمها خلال فترات من تاريخها الحضاري العريق. * باحث في العمارة الإسلامية من العراق