يعيش العالم العربي في معظم اقطاره حالا من التفسخ في كياناته ومجتمعاته ينعكس سلبا على دور الدولة فيها بحيث يتناقص هذا الدور لصالح انبعاث مقومات ما قبل الدولة من بنى طائفية وعشائرية وقبلية واثنية. تكاد تتحول الدولة في ظل هذا الواقع الى الطرف الاضعف بعد ان يسير حثيثا انتقال سلطاتها الى هذه المؤسسات واحتكارها الصلاحيات وصولا الى مصادرتها لمنطق العنف نفسه. في الجواب عن هذا الوضع المستفحل، تنطلق اصوات متعددة المشارب من سياسيين ونخب داعية الى دولة قوية في كل قطر عربي تستطيع ان تتصدى للانفلات المتصاعد وتضع حدا لحركات الارهاب والتطرف وتعيد لحمة البلاد والمجتمع. لكن مفهوم الدولة القوية يحتاج في العالم العربي الى مزيد من بلورة المفهوم انطلاقا من معطيات الماضي والحاضر. يتناسى المتأسفون على غياب الدولة القوية في الوطن العربي انه منذ قيام دول الاستقلال كان هم كل واحدة انجاز دولة قوية وقادرة على الامساك بالسلطة، وهو قانون حكم جميع الدول العربية المستقلة. مما يعني ان ما نشهده اليوم هو انهيار هذه الدولة القوية السائدة تحت وطأة عوامل تتصل بطبيعة هذه الدولة وسياساتها على امتدا عقود حكمها. اتسمت الدولة التي بنتها حركة التحرر الوطني وقوى الاستقلال عن الاستعمار بتغليب الهم الامني على حساب سائر القضايا التي يتطلبها الشعب وتطور الدولة. مما لا شك فيه ان هذه الدول انفقت معظم مواردها على بناء الجيوش والاجهزة الامنية تحت شعار استكمال مهمات التحرر القومي من جهة وتأمين مجتمع آمن للمواطنين من جهة اخرى.وارفقت هذا التوجه باطلاق برنامج اصلاح اقتصادي واجتماعي وتنموي بما يدمج بين الامساك بالامن وتسييجه بمكتسبات سياسية واقتصادية واجتماعية. على امتداد عقود، وضع برنامج الانظمة المصنفة في خانة"التقدمية"او"الرجعية"امام اختبار برامجها وتعرضت ايضا لامتحان المواجهة مع العدو القومي فبانت حدود سياساتها وفشل برامج كثيرة في تحقيق الوعود التي اغدقتها على شعوبها. لكن الاسواهو ما مارسته هذه الانظمة على شعوبها والذي يمكن اختصاره بتحول شعار الدولة الامنة الى دولة امنية جرى فيها توظيف القوى العسكرية والامنية في قمع هذه الشعوب ومنع قيام معارضة سياسية للحكام، وحرمان الغالبية العظمى من حقهم في العمل السياسي، اضافة الى ممارسة قهر مزدوج على المجموعات السياسية والعرقية واضطهادها وحرمانها من ابسط الحقوق السياسية والمدنية. وعلى الصعيد القومي، فبديلا من استعادة الحقوق القومية خسرت المزيد من الاراضي وخضعت الى احتلالات مذلة واجبرت على توقيع اتفاقات مهينة. اما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، فكانت الحصيلة تعميق التخلف ومراوحة التطور ، مما انتج واقعا بائسا جعل العالم العربي في طليعة الدول التي تحتل فيها الامية والبطالة والفقر درجة عالية. هذا في وقت يعرف العالم ان منطقتنا تحوي من الثروات والموارد الكفيلة بالقضاء على الفقر وانجاز مشاريع استثمارية تدفع بتقدم البلدان العربية الى مصاف الدول المتقدمة. تلك هي حصيلة الدولة القوية التي بنيت في العالم العربي. وما نشهده اليوم من انهيار في مقومات الكيانات العربية لم يكن نتاج غياب الدولة القوية في الوطن العربي بمقدار ما كان نتاج قيام هذه الدولة بالمقومات التي اعتمدتها في عملية البناء والمارسة. لا يعني هذا التشخيص دعوة الى منع قيام دولة قوية والابقاء على الاوضاع الراهنة. على العكس من ذلك، يحتاج العالم العربي الى دولة قوية بكل معنى الكلمة، لكن النقاش يجب ان يطال مقومات هذه الدولة استنادا الى التجربة المتحققة بشكل رئيسي والى تجارب عالمية في هذا الميدان. تحدد الدولة القوية القادرة بانها الدولة الديموقراطية العادلة التعددية الضامنة للحرية بشتى اشكالها، الدولة التي تساوي المواطنين امام القانون وتمنع التعدي على الحقوق المدنية والسياسية للمجموعات القائمة، بما يعني احترام خصوصيات هذه المجموعات. الدولة القوية هي التي تعتبر ان مواردها وثرواتها هي ملك الشعب ويجب ان توظف في مشاريع تساهم في تقدمه وتحسين شروط معيشته. وهي التي تسعى الى تحفيز الانتاج والطاقات البشرية وتحمل مشروعا للنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما ان الدولة القوية هي التي تعطي الممارسة الديموقراطية كامل مداها سواء عبر انتخابات حرة نزيهة يعبر الشعب فيها عن خياراته، وتشكل مصدرا لشرعية السلطة، ووسيلة لتداولها، واطارا لرقابة شعبية على ممارسة السلطات في اطار من الشفافية والوضوح. الدولة القوية هي التي تتصدى لنهب موارد الدولة ومكافحة الفساد والتشدد في محاسبة المسؤولين عنه. والدولة القوية ايضا هي التي تحدد للاجهزة الامنية والعسكرية دورها وصلاحياتها بما لا يتجاوز الدور الامني المطلوب منها. ينتج عن ذلك ان الدولة القوية عمادها الديموقراطية التي تحوي في اطارها كل المسائل التي جرت الاشارة اليها. في ظل الاوضاع العربية السائدة والمتوالية الانحدار، يبدو مطلب الدولة القوية بالمفهوم المختلف عما جرى تطبيقه عربيا كأنه احد الاحلام التي يطمح المرء الى تحقيقها. فالدولة القوية ستكون نتاج مشروع نهضوي متكامل الجوانب يطمح الوطن العربي الوصول اليه، وهو مشروع لابد ان تكون ممراته اصلاحات جوهرية تطال كل الميادين من السياسي الى الاقتصادي الى الثقافي الى الاجتماعي وصولا الى الديني.لا يبدو ان المجتمعات العربية تسلك هذا السبيل ولو في حده الادنى، بل على العكس ان ما يشهده العالم العربي هو محاولة دؤوبة لاعادة بناء دولة قوية على غرار ما فعلته سابقا، اي دولة امنية عسكرية لن تكون وظيفتها سوى المزيد من القهر والقمع لمواطنيها. تأتي اعادة البناء هذه في ظروف مختلفة عن المرحلة الاولى التي كانت مدعومة من الشعوب العربية وقدمت خلالها التضحيات من اجل نجاح انظمة الاستقلال في بناء هذه الدولة القوية.مما يعني ان على الشعوب العربية انتظار وقت غير محدد لترى نفسها وقد بدأت تخرج من اسار الوضع الذي سجنتها انظمتها داخل سياجه. * كاتب لبناني.