لكثرة هزائمنا واخفاقاتنا اصبحنا نعتقد بأن الأمة العربية من اكثر أمم الأرض هدراً لامكانياتها، وضياعاً للفرص التاريخية التي تهيأت لها للنهوض والتقدم، ولا نريد ان نجادل في ما اذا كان ذلك صحيحاً ام لا لأن الهدف من كتابة هذا الموضوع هو: محاولة الاجابة عن السؤال التالي: هل اضاع العرب فعلاً فرصاً تاريخية، ولماذا؟ اقترنت الفرص الضائعة في عنوان هذا المقال بكلمة التاريخية، ذلك يعني ان الفرص التي نعنيها ليست فرصاً عادية وانما ترتبت عليها تحولات هامة وخطيرة، ولما كانت ولا تزال تلك الفرص ضائعة فذلك يعني بدون ادنى شك بأن العرب قد دفعوا ولا يزالون الثمن غالياً من امكانياتهم، وطاقاتهم، ووقت وجهد ودماء شعوبهم فكانت النتيجة بؤس الانسان في دنيا العرب وتخلفه. فالفرص التاريخية عندما تستغل ويستفاد منها يعني ان انجازات استراتيجية، وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ستشهدها الشعوب الواعية التي تقتنص تلك الفرص لتترجمها الى مكاسب ونجاحات في بناء مشروعها النهضوي مستغلة مقومات القوة لديها. الفرص التاريخية لا تأتي دائماً وفي الاوقات التي نختارها، وانما تفاجئنا بين فترة زمنية وأخرى قد تطول او تقصر، وبين الفرصة والاخرى ربما سنوات او عقوداً او حتى قروناً. وليست هناك امة عبر تاريخها لم تتهيأ لها الفرص، فالشعوب التي استفادت من تلك الفرص قد حقت تقدماً، اما الشعوب التي لم تستغل تلك الفرص فقد ظلت متخلفة. مرت على الأمة العربية عبر العصور فرص عديدة استفادت من بعضها في فترات معينة فتحققت لها النهضة، فالحضارة العربية الاسلامية في العصور الوسطى استغلال جيد للفرص التاريخية رغم اختلاف البعض حول طبيعة وماهية تلك الفرص، ومدى تأثيرها في المراحل التالية. اما تاريخ العرب الحديث والمعاصر فقد شهد عدداً من الفرص التاريخية الهامة بيد انها ضاعت، ولم تستغل ليستفيدوا منها في احداث التقدم او تحقيق مشروع النهضة العربية. لنلق نظرة على بعض تلك الفرص التاريخية الضائعة التي نعتقد بأهميتها الاستراتيجية لو استغلت ولم تذهب دون ان تترك اثراً ايجابياً في مسيرة هذه الأمة لا بل كان العكس من ذلك حيث ترتب على ضياعها هزائم وتراجع وتخلف عاشه العرب ولا يزالون ولكل ذلك تداعيات وآثار على حاضرهم ومستقبلهم. ما هي الفرص التاريخية الضائعة على العرب؟ نختار في ما يلي بعضاً من تلك الفرص التي ضاعت على العرب كأمثلة ونتصور حال العرب لو انها لم تضع. اولاً: مشروع النهضة العربية شهدت العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر نهضة فكرية بشرت بمرحلة متقدمة للعرب، فالفكر الذي طرحه مفكرو تلك المرحلة مثل الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وسبقهم الطهطاوي وخير الدين التونسي، وجاء بعدهم عدد من المفكرين المستنيرين في بداية القرن العشرين قد تركز على مقاومة الحكم الاستبدادي، ومحاربة الاستعمار، ووضع معالم المجتمع الجديد لأمة العرب في اطار الاستفادة من التراث العربي الاسلامي وتقدم الغرب. ووضعت بالفعل معالم بناء ذلك المجتمع لكن ذلك الفكر بقي في اطار النخبة، ولعب دوراً في التنوير وفي النضال السلبي من اجل استقلال العرب، وحماية مقدساتهم، وحركة التنوير لمراحل تالية بيد ان مشروع النهضة العربية ذلك لم يتبلور، ويتشكل كما ينبغي وتكتمل صورته ثم يطبق على أرض الواقع لخلق واقع جديد. وعوامل عدم تحقيقه عديدة بعضها ذاتي وبعضها خارجي، ويبدو لنا ان النقد قد انصب بكثافة على العوامل الخارجية مثل الاستعمار دون التركيز على نقد الذات، وأوجه القصور في واقعنا العربي. والوسطية التي تؤمن بها العقلية العربية جعلت العرب يقبلون بأنصاف الحلول، وهي في حقيقة الأمر في ظل تلك الظروف اقل من ذلك بكثير، كما ان العقلية العربية العشائرية عقلية تبريرية للأخطاء حيث تتحول الى ايجابيات وهي في واقع الأمر لم تحقق أية نجاحات. وان النخبة التي حملت لواء تحقيق مشروع نهضة العرب كانت عقليتها مشدودة الى الواقع الاجتماعي والثقافي المتخلف المتراكم فلم تتحرر من قبليتها، ومن تضخيم كل شيء كالانتصارات والاخفاقات التي تخرجها عن حجمها الحقيقي، كما لم يتوفر لهذه الأمة تعليم حديث جيد الا في حدود ضيقة، وفي اطار النخبة الميسورة الحال التي هي اساساً من طبقة اقتصادية اقطاعية وأرستقراطية، وحتى نظام الحكم الذي كانت تنشده النخبة وتكافح من اجل اقامته كان في اطاره العائلي العشائري. اضف الى ذلك صراع المفكرين والمثقفين بين التيار التوفيقي، والتراثي الديني السلفي، والليبرالي والعلماني، مما نتج عنه استنزاف لطاقة هذه القوى في وقت تشكلها وتكوينها، وفي الوقت الذي تواجه فيه قوى تفوقها قدرة وخبرة وامكانية. ثانياً: اسرائيل والعرب تزامن ظهور الحركة الصهيونية مع ظهور مشروع حركة القومية العربية لكن المفارقة هي ان المشروع الصهيوني قد تحقق كما خطط له في اقامة الوطن القومي في فلسطين في الوقت الذي لم يتحقق مشروع حركة القومية العربية الذي كان يهدف الى استقلال العرب، ووحدتهم، وبناء مجتمعاتهم. وهنا يحق للكثيرين أن يسألوا، لماذا تحقق المشروع الصهيوني على حساب العرب، ولماذا لم يتحقق مشروع حركة القومية العربية؟! نجاح الحركة الصهيونية: يحلو للبعض بدافع العصبية والشيفونية، والتربية التراثية التي ركزت على البطولات والانتصارات ان يغمضوا اعينهم عن الحقيقة ليقرروا بأن الحركة الصهيونية قد فشلت، وأن مشروعها مآله الفشل، ولكننا نختلف مع هؤلاء في الرؤية المقابلة وهي ان الحركة الصهيونية قد نجحت في تحقيق مشروعها وأسباب نجاحها كالتالي: أ - تهيأ للحركة الصهيونية منذ البداية قيادة تتمتع بعقلية علمية وعملية وضعت الاستراتيجية والأسس النظرية، وطبقتها في الواقع. ب - كانت لدى الحركة الصهيونية استراتيجية واضحة محددة الأهداف سعت لتحقيقها. ج - كون قيادة الحركة الصهيونية لديها فكر علمي وعملي فقد عمدت الى الاستغلال الامثل للفرص التي تهيأت بين الحين والآخر وبخاصة في فترة السيطرة الاستعمارية الغربية على البلاد العربية في النصف الأول من القرن العشرين. د - لم يكن فكر الحركة الصهيونية نظرياً غير مقترن بالفعل بل بالفعل والتنظيم المحكم المدروس مسبقاً والمخطط له. ه - الشروع في اقامة الوقائع على الأرض لتكون امراً واقعآً تكتسب مع الزمن اقدمية لتضفي عليها الشرعية كالاستيطان. و - قاد المشروع الصهيوني تنظيم سياسي واحد هو الحركة الصهيونية، وأخضعوا تناقضاتهم في سبيل تحقيق مشروع اقامة الوطن القومي لليهود. هذا يعني ان القوة الذاتية للحركة الصهيونية كانت الأساس في نجاح المشروع الصهيوني، وان العوامل الاخرى كانت مساعدة وثانوية، وإذا نظرنا في المقابل الى اخفاق حركة القومية العربية في تحقيق مشروعها النهضوي في الاستقلال والوحدة والتقدم نجد الأسباب التالية: فشل الحركة القومية العربية كانت حركة القومية العربية على النقيض من عوامل نجاح الحركة الصهيونية فلم تكن العقلية العربية التي قادت فصائل حركة القومية العربية علمية بل عاطفية وعشائرية في فكرها وممارساتها. ولم تكن حركة القومية العربية تقاد من قبل تنظيم واحد، بل كانت مشتتة الى عشرات التنظيمات الحزبية والفئوية تتعارض في الكثير من اطروحاتها وخطابها السياسي مع بعضها اكثر من تناقضها مع الآخر، ولا تملك استراتيجية واحدة كما كان للحركة الصهيونية. اضف الى ذلك فقد اضاع العرب فرصاً تاريخية كثيرة وبخاصة في فترة ما بين الحربين العالميتين وفي بداية استقلال بلدانهم. وفي الوقت الذي انشغلت فيه الحركة الصهيونية منذ بداية العشرينات من القرن العشرين في بناء الوقائع على الأرض في فلسطين انشغل العرب في الكلام والجدل والخلاف والصراع الفكري دون ان يرتبط ذلك بحركة الواقع ويؤثر فيه ايجابياً. وسيقول البعض ان ذلك تجن على حركة القومية العربية لأنه يتجاهل الثورات، والتضحيات، والدماء العربية التي سفكت من اجل التحرير وتحقيق الأهداف القومية، وهنا لا نريد ان ندخل في جدل لتفنيد ذلك بيد اننا نقول بأن الكفاح والنضال الذي يقدم هكذا تضحيات ينبغي ان يجني نتائج ايجابية تترجم الى انجازات ونجاحات تؤدي الى التقدم والتطور لهذه الأمة، فهل تحقق ذلك بعد ثلاثة أرباع القرن من ذلك النضال والتضحيات؟! نعود الى سياق موضوعنا، وحتى اقتران الفكر بالتنظيم لدى الحركة القومية العربية فقد طرحت اهدافاً كبرى، وتشكلت الاحزاب المتعددة لكن تلك التعددية لم تكن تعيش في اجواء ديموقراطية في تعاملها حتى التعامل داخل الحزب الواحد لم يكن ديموقراطياً، وكانت العلاقة بين تلك القوى العربية لاختلافها الفكري الايديولوجي، او حتى الاختلاف في وجهات النظر يؤدي الى تصادمها، واستنزاف طاقاتها على الدوام. ايضاً لم تكن لدى قوى حركة القومية العربية ولا أنظمة الحكم الوطنية العربية بعد الاستقلال استراتيجية واضحة محددة الأهداف يجتمعون عليها. لقد كانت الطموحات القومية كبيرة تنتهي باخفاقات لتبدأ مسيرتها من جديد وربما من الصفر احياناً. المعضلة الكبرى انه حتى الآن ونحن ندخل القرن الواحد والعشرين ليست لدى العرب استراتيجية يجتمعون على مبادئها وأهدافها الأساسية! هذه المقارنة بين نجاح الحركة الصهيونية وفشل الحركة القومية العربية قاسية على العقل والضمير العربي، ولكن نقد الذات هو الطريق لاصلاح الاحوال، وان الامور لا يمكن ان تستقيم اذا استمر الفكر القومي السلفي يمارس نفس النهج الذي تربى عليه قبل عشرات السنين. ما نريد قوله هو ان العرب قد اضاعوا فرصة مواجهة المشروع الصهيوني، ووقف تنفيذه بفعلهم أولاً، ومن ثم لتأثير الظروف التي سادت بلدانهم تحت السيطرة الاستعمارية ثانياً. ثالثاً: استقلال الدول العربية ماذا يعني الاستقلال؟ الاستقلال: هو التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي من التبعية للأجنبي، وحرية اتخاذ القرار لبناء الاوطان. ولماذ كان الكفاح من اجل الاستقلال بهدف التحرر لبناء الاقطار العربية، لتحقيق التنمية والحرية والديموقراطية التي حرم منها العرب مئات السنين فقد تحقق الاستقلال السياسي، ومرت عشرات السنين على ذلك الاستقلال دون ان تتحقق الاهداف الأساسية في التنمية والحرية والديموقراطية. لقد كانت لدى العرب فرصة تاريخية بعد تحقيق الاستقلال السياسي لبناء هذه البلدان العربية اقتصادياً واجتماعياً وتحقيق الحرية، ولكن ذلك لم يتحقق بمعنى انهم اضاعوا الفرصة التاريخية كما اضاعوا فرصة مواجهة الحركة الصهيونية، ومنع تنفيذ مشروعها في اقامة الوطن القومي لليهود على حساب العرب. قد يكون من الطبيعي ان تضطرب الاحوال في البلدان حديثة الاستقلال نتيجة عدم الخبرة المتراكمة في الادارة والتنمية، وبتأثير الظروف السابقة على الاستقلال لكن ذلك يستمر فترة قصيرة من الزمن ثم تهدأ الاحوال لتبدأ المسيرة في البناء والتقدم، بيد ان سيطرة العسكر على السلطة في البلدان العربية المستقلة كانت ولا تزال اهم مشكلات العرب بعد الاستقلال. وعندما نرجع بالذاكرة الى تواريخ استقلال الاقطار العربية نجد ان استقلالها قد تحقق في فترات متفاوتة منذ الثلاثينات من القرن العشرين وأغلبها قد تحقق استقلالها حتى بداية الستينات ذلك يعني انه مر على استقلال الدول العربية حوالى ثلاثة أرباع القرن، السؤال: الا تكفي هذه الفترة الزمنية لكي ترسي هذه الدول اسساً للتطور والتقدم والديموقراطية؟ ولماذا لم يتحقق لها ما تحقق لغيرها مثل اليابان على سبيل المثال؟! من المؤسف والمؤلم حقاً ان نجتر مآسينا وأسباب تخلفنا، لكن من المهم ان نضع ايدينا على مكمن الخلل في اوضاعنا، وأسباب تخلفنا وهذا ما ساهم في العديد من المفكرين العرب مؤخراً. يبدو ان الأمة بحاجة الى تحول تاريخي يضعها على طريق جديد أساسه اما تجديد لفكرها او ايجاد فكر جديد، وهذا التحول صعب التنبؤ بطبيعته وزمنه ومدى تأثيره، لكن بدونه ستستمر فترة التخلف والسكون زمناً طويلاً. رابعاً: النفط وعائداته النفط مورد جديد هام ظهر في النصف الأول من القرن العشرين في بعض الدول العربية، وبدأ استغلاله بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت آثار الاستفادة من عائداته في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد واكب استغلال النفط في بعض الدول العربية استقلال تلك الدول، وكانت فرصة تاريخية للاستفادة الحقيقية من هذه الثروة الطبيعية في تقدم البلدان العربية المنتجة للنفط، والدول العربية لاخرى. وبعد مرور اكثر من نصف قرن على استغلال الثروة النفطية في الدول العربية لنلقي نظرة على مظاهر الحياة في العالم العربي في العصر النفطي الذهبي. اولاً: تحول المجتمع العربي في هذه الدول من مجتمع منتج الى مجتمع مستهلك. ثانياً: ان الأنظمة العربية لم تحسن ادارة واستغلال عائدات النفط لتحقيق التنمية الشاملة. ثالثاً: لقد كانت ولا تزال استفادت قطاعات مجتمعية واسعة من عائدات النفط في هذه الدول وذلك بتوفير الخدمات والتعليم المجاني والخدمات الصحية والاسكان... الخ، ولكن ذلك غير كاف حيث ان المطلوب في ظل تلك الظروف ان تحدث التنمية الشاملة التي تضمن حياة جديدة للاجيال القادمة. رابعاً: الهدر للثروة من قبل الأنظمة والشعوب على حد سواء، فالأنظمة انفقت الكثير على شراء السلاح دون استخدامه، او تنفيع طبقة اجتماعية غير منتجة، وعدم اقامة المشروعات الاستراتيجية، وهدر للثروة من قبل المواطن الذي اتجه الى الاستهلاك الترفي، وغياب الوعي والثقافة الحقيقية. خامساً: خلق النفط مشكلة الهجرة والهجرة المعاكسة في العالم العربي، الهجرة من دول المنشأ العربية الطاردة الى الدول العربية المنتجة للنفط الجاذبة، كما حدثت في المرحلة نفسها هجرة للعقول العربية الى العالم المتقدم في الغرب، وفي المقابل حدثت هجرة مكثفة للعمالة الآسيوية الى دول الخليج العربي خاصة. سادساً: حدث تغير في نمط حياة المجتمعات العربية المنتجة للنفط، ونتج عن الاستخدام الخاطئ للثروة مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وصحية. سابعاً: لقد هدرت بعض الدول العربية النفطية عائدات النفط على الحروب، وشراء السلاح على حساب تنمية شعوبها. ثامناً: عاش المجتمع العربي في الدول النفطية حياة اقتصادية جيدة نسبياً وبخاصة في دول الخليج العربية بيد ان تلك الحياة هي لجيل واحد هو جيل العصر النفطي، ويبدو ان هذا الجيل لم يعمل شيئاً مهماً للأجيال القادمة! بعد هذا نقول لقد اضاع هذا الجيل العربي الفرص التاريخية، وعلى الاجيال المقبلة ان تعي الدرس وتستفيد من قراءة التاريخ. * استاذ في جامعة الكويت.