حين تحشد "حماس" عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، لإحياء الذكرى العشرين لانطلاقتها، ويلوّح خالد مشعل بانتفاضة ثالثة، لا يشكك أحد بولاء هؤلاء المحاصرين في القطاع بين سور إسرائيلي وصقيع الجوع والضربات الجوية... بولائهم لقضيتهم المحاصرة ايضاً بين احتلال وطريق مغلق بين القطاع والضفة الغربية. إنه طريق الحوار بين حماس والسلطة الفلسطينية الذي يجعله حديث"الصفقات"الإقليمية أكثر وعورة، وتبقيه"حركة المقاومة الإسلامية"و"فتح"رهينة الهواجس، والتباعد بين خطين، الى ما لا نهاية. فحتى حديث الوساطات لم يعد يقنع احداً، فيما كل طرف في خندقه، يتمترس وراء"شرعيته". السلطة تريد عودة"الابن الضال"حماس الى مشروع الدولة ومؤسساتها هي، وما زالت تتمسك بالتراجع عن"الانقلاب"، فيما"الشرعية"الأخرى التي كرست نفسها بالقوة وشعبيتها في الشارع، مطمئنة الى الحشود التي لا تميز بين مصير القضية والدولة ومصير الأعلام الخضر! "حماس"المصرة على رفض الركوع لأي شروط من اجل فتح طريق الحوار مع السلطة ومع الرئيس محمود عباس، تفرض هذا الشرط الكبير مسبقاً، وإذ تستعير من اللبنانيين مقولة"لا غالب ولا مغلوب"، تختار التوقيت السيئ الذي لا يحسدهم فيه أحد... حيث معضلة الشرعيات والتفويض هي محور الأزمة والحلول المؤجلة ايضاً. عشرات الآلاف ممن رفعوا بنادقهم وأعلام"حماس"في غزة، جاهزون للانتفاضة الثالثة التي يراها مشعل آتية، وينصح عباس بالتخلي عن"وهم"الدعم الدولي لأن"الشرعية هي الشعب". هكذا تبدو شرعية السلطة في الضفة الغربية في مواجهة الشعب في غزة، بينما يصعب تخيل قدرة"حماس"على تحريك انتفاضة في منطقة خارج سيطرتها، ولاستهداف الاحتلال الإسرائيلي بالطبع. والحال ان استثمار الغضب الفلسطيني لم يعد في قبضة الحركة وحدها، بتبدل الظروف، بل لعل المدنيين في رام الله ونابلس وغيرهما، أو كثيرين منهم على الأقل، لا يرون في مشروع انتفاضة ما يجعل الطريق الى مشروع الدولة قصيراً، كما لا يحسدون الفلسطيني في غزة على ما يعتبرونه سجناً كبيراً، التبست فيه هوية السجّان. بديهي ان تبقى الانتفاضة، أي انتفاضة على الاحتلال هدفاً مشروعاً لأي فلسطيني، لكن استراتيجية"حماس"في ذكرى انطلاقتها، تضاعف التباسات الحوار المقطوع مع"فتح"وتمدد"القطيعة"بين غزة والضفة، فيما مشعل واسماعيل هنية يوحيان أولاً بأن لا مخرج قريباً للملمة اشلاء القضية، وبأن التناقضات باتت تتحكم ب"منطق"حركة حماس وطروحاتها. أول الشروط رفض أي شرط، ولا يمكن سلطة ان تشكك بشرعيتها لاسترضاء من يطعن فيها. ويتجاهل مشعل ان الدعم الدولي كان على مدى عقود وسيبقى شرياناً حيوياً لإبقاء قضية فلسطين حية في مواجهة القضم الأميركي - الإسرائيلي، أو الإسرائيلي الذي يستظل بحماية اميركا، ولم تعد تزعجه بيانات أسف تمهرها واشنطن بتوقيع خريطة الطريق التائهة... كما فعلت حين"لحس"ايهود اولمرت وعوده بوقف الاستيطان. إنها معضلة شرعيات وتفويض، مرة أخرى، تتجدد، ودائماً تحت سقف مواجهة"الممانعة"للمشروع الأميركي للشرق الأوسط الموسع. لكن المواجهة، عملياً، ما زالت بين الشقيق وشقيقه في العراقولبنانوفلسطين، ولن تعوز الخبث الإسرائيلي ذرائع كثيرة لتحويل أي شرارة لانتفاضة في الضفة الغربية الى حرب بين الفلسطينيين، بافتراض ان ل"حماس"قدرة على تحريك الشارع في مناطق السلطة. بين حديث الصفقات ومعضلة الشرعيات، وكما في لبنان تعثرت الحلول، وتشدَّدَ فريق"الممانعة"، عادت"حماس"الى التشدد، وهدفها يتجاوز"سلطة أتفه من ان تخوض لأجلها معركة". العبارة لاسماعيل هنية الذي لا يستطيع ان يعد فلسطينييغزة بموعد لفك الحصار الإسرائيلي، ولا ان يقنعهم بأن"الوحدة الوطنية سر وحدتهم"! هنية يكره تبادل القبلات مع أولمرت، وهو محق، لكنه بالتأكيد لم يعطِ الدليل بعد على ان"المقاومة الإسلامية"قدمت أي مؤشر الى استعدادها للتضحية أو التنازل من اجل استعادة تلك الوحدة، واقتنعت بأن إصرارها على إكمال"صراع الخطين"مع السلطة، يريح الاحتلال من أعباء كثيرة. اما تبرير مشعل هذا الصراع بتدخلات"خارجية"، فيستحضر أسئلة من نوع دمج فلسطين في خريطة الاشتباك الأميركي - الإيراني، وحصة غزة من نتائجه، والأهم مردود صواريخ"القسام"التي تصيب إسرائيل، وتُحصى في ايران، بانتظار جولة حوار أخرى بين طهران وإدارة بوش.