سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مشاركة رسمية وسياسية وديبلوماسية وشعبية حاشدة في مأتم مدير العمليات في الجيش . لبنان يودع فرنسوا الحاج بيوم تشييع طويل ويكلل "القائد الموعود" بالورد والدموع
مرة أخرى يحمل اللبنانيون نعشاً مجللاً بعلمهم الوطني، يطوفون به الطرق، يديرونه في اتجاه حفرة وكومة من الشظايا المعدنية كان انفجارها قبل 48 ساعة حدد مصير قيادي جديد من وطنهم. ينظرون الى الحفرة والى الشهيد المرفوع نعشه على الأكف، ويمضون به الى المثوى الأخير على وقع اتهامات لا ينتهي تبادلها، فيما الحفرة إياها تُغلف بالنايلون في انتظار معرفة جناة لا يتعبهم ارتكاب الموت. تكرر المشهد إذاً أمس، لدى توديع اللبنانيين شهيدهم"الجديد"مدير العمليات في الجيش اللبناني اللواء فرنسوا الحاج. رحلة أخيرة لكنها طويلة بدأت في السابعة والنصف صباحاً من المستشفى العسكري في منطقة بدارو في بيروت مروراً بمنزله ومسرح الجريمة التي أودت بحياته في بعبدا صعوداً الى حريصا للصلاة عن نفسه وعودة الى بيروت ومنها الى الجنوب وتحديداً بلدته رميش الحدودية التي وصلها ليلاً مكللاً بطبقات من الرز وأوراق الورد التي نثرها مودعوه عليه. كشف الصباح عن حركة ليلية لم تهدأ، أعلام لبنانية غطت الشوارع المقرر ان يسلكها موكب التشييع، مثلما غطت اللوحات الإعلانية المنتشرة على الطرق لمناسبة الأعياد وكثرت اللافتات التي تحمل تواقيع بلديات وأصدقاء الشهيد، وكل منها يودع الشهيد على طريقته، وكأن لبنان لبس ثوب الحداد فخرج مواطنون كثر بالأسود الى الشرفات والشوارع لملاقاة الموكب والتصفيق له والبكاء وإطلاق الأسهم النارية تحية. في باحة المستشفى العسكري حمل رفاق السلاح النعش المجلل بالعلم اللبناني وراحوا يهزونه على وقع لحن الموتى، سالت دموع الابن الذي تيتم، ولم يقو جسد الأب المثقل بالحزن على الوقوف من دون مساعدة وهو يحتضن صورة ابنه الشهيد، وبعد تحية الوداع سار النعش في موكب تقدمه الدراجون والسيارات العسكرية وحمته في الأجواء طوافات الجيش وسماء باكية. سلك الموكب طريق صيدا القديمة صعوداً الى الحازمية وصولاً الى بعبدا حيث انتشر الجيش بكثافة، وحين دنا من المنزل الذي غادره الى الأبد في حي الأمراء وارتفعت على جدرانه صورة عملاقة له باللباس العسكري، تداخلت الزغاريد مع نحيب النساء. أرملة فرنسوا الحاج وابنتاه والأم الثكلى والأخوات والاخوة... ونساء ورجال، لم يخفوا دموعهم وشهقاتهم على"القائد الموعود"، إذ ان الراحل كان مرشحاً لقيادة الجيش في حال انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. دخل اللواء الشهيد منزله محمولاً على الأكف، وانتظرت في الخارج وفود شعبية كبيرة جاءت من مناطق مختلفة خصوصاً من بلدتي رميش مسقط رأسه وبلدة عين ابل المجاورة لها، وقرى جنوبية أخرى. بعد لحظات وداع مؤثرة غادر النعش مجدداً المنزل محمولاً، وانتقل موكبه الى مستديرة بعبدا، هناك أنزله عناصر من الشرطة العسكرية ورفعوه على الأكف، وكانت موسيقى الجيش تعزف لحن التكريم وقدمت ثلة من الجيش السلاح، وقرعت الكنائس في بعبدا أجراسها. اخترق النعش الجموع في الشارع المزدان بالأشرطة البيضاء ولافتات كتب عليها:"بعبدا عرين الجيش اللبناني تودع ابن رعيتها"،"بعبدا بلدتك الثانية لن تنساك أبداً يا شهيد البطولة ولبنان". وتقدم حاملوه في اتجاه مبنى بلدية بعبدا حيث وقع الانفجار، وتوقفوا عند الحاجز الذي يطوق مسرح الجريمة وعلت صرخات الوداع من الأبنية التي ما زالت تلملم جروح اليوم السابق. تحرك الموكب مجدداً على وقع زخات من المطر راحت تتحول غزيرة كلما تقدم الموكب صعوداً الى حريصا، وعلى طول الطريق الساحلية كان المشهد نفسه يتكرر، مواطنون خرجوا الى الشرفات حاملين الأعلام اللبنانية راحوا يلوحون بها للسيارة التي تحمل النعش ورشقات من الرز تنثرها عليه أيدي سيدات نزلن الى الطرقات يبكينه بصمت، وعلى الطريق في الاتجاه الثاني توقفت حركة السير ونزل ركابها الى الشارع لوداع الموكب والتقاط صوره الاخيرة بواسطة هواتفهم الخليوية. وكان مناصرون كثر لپ"التيار الوطني الحر"لبوا دعوة التيار وتجمعوا في أماكن متفرقة ولوحوا للموكب برايات التيار واستحدثت بلديات وتجمعات أخرى زوايا أخرى أطلقوا منها اسهم نارية تشبه طلقات المدفعية التي يشيع بها الرؤساء. "شهادتك ترسخ قناعاتنا بأن لا خلاص لنا الا بالجيش اللبناني"، لافتة علقت على طريق جونيه هي لسان حال مواطنين كثر كانوا خرجوا هم ذاتهم الى الشارع نفسه لتحية الجيش العائد من معركة نهر البارد قبل أشهر قليلة، وپ"انتظرنا ان نزفك قائداً فإذا بنا نزفك شهيداً"عبارة أخرى كتبت على لافتة وقفت نساء أمامها يهتفن"يا قائد". على الطريق الى غادير ودرعون - حريصا انتشر عشرات الجنود وعلقت صور اللواء الحاج على الأشجار والصخور والمنازل فيما ارتفعت لافتات باسم أصدقاء الشهيد كتب على إحداها"تقضي البطولة ان نمد أجسادنا جسراً فقل للرفاق ان يعبروا". في العاشرة وصل موكب الجنازة الذي كان يتضخم مع انضمام عشرات السيارات اليه، الى كنيسة سيدة لبنان في حريصا، وكانت سبقت الموكب شخصيات سياسية من الموالاة والمعارضة الى قلب الكنيسة وملأ العسكر المكان حضوراً وتنظيماً. جلس على المنصة حشد من المطارنة الموارنة والعديد من رجال الدين وتوسطهم البطريرك الماروني نصر الله صفير الذي راح يتأمل من مكانه الحضور السياسي المتنوع، ويرافق بنظراته دخول نعش الشهيد الحاج على وقع تصفيق الجموع. سبق ذوو الشهيد الى الكنيسة وكان والده يردد"يا بيي شو صار فيك، دمروك يا قائد"، وصرخت شقيقته"يا بطل يا أبو ايلي"، وسقطت دموع سخية من عيني الابن وانتحبت الأم والزوجة والابنتان بصوت خافت. استوى الجميع على كراسيهم وتناوب على حراسة النعش ضباط من حملة السيوف فيما راح الشهيد"يراقب"الجميع من صوره الكبيرة التي علقت على جانب الكنيسة وهو بلباس الميدان، وحين حضر قائد الجيش العماد ميشال سليمان علا تصفيق حاد في القاعة، وراح البطريرك صفير يراقب وصوله الى مقعده بالقرب من عائلة الشهيد. عاون صفير في الصلاة راعي ابرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر وراعي ابرشية صور المارونية المطران شكر الله نبيل الحاج، والرئيس العام للمرسلين اللبنانيين الأب ايلي ماضي وكاهن معبد سيدة لبنان الأب خليل علوان وشارك السفير البابوي لويجي غاتي ممثلاً البابا بنديكتوس السادس عشر، المطران ميشال ابرص ممثلاً بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، المطران كيغام ختشاريان ممثلاً الكاثوليكوس ارام الأول، المطران انطوان بيلوني ممثلاً بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس بطرس عبد الأحد، المطران الكسي مفرج ممثلاً راعي ابرشية بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، ولفيف من المطارنة والأساقفة والرؤساء العامين والكهنة من مختلف الطوائف المسيحية. الحضور السياسي وفي مقدم الحضور جلس الى عائلة الشهيد، النائب أنطوان خوري ممثلاً رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ووزير الدفاع الياس المر ممثلاً رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، فيما غاب الكرسي المخصص لممثل رئيس الجمهورية. وشارك في الجناز الرئيس أمين الجميل، ورئيس محكمة الاستئناف المذهبية الدرزية العليا نهاد حريز ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، والوزيران خالد قباني ونعمة طعمة، والوزيران المستقيلان يعقوب الصراف ومحمد فنيش. وحين حضر رئيس تكتل"التغيير والإصلاح"النيابي ميشال عون علا تصفيق أنصاره من طلاب الجامعات التي كانت توقفت عن التدريس أمس، وشارك أيضاً رئيس"اللقاء الديموقراطي"النيابي وليد جنبلاط الذي خُصص له كرسي خلفي ورافقه النائبان اكرم شهيب ووائل أبو فاعور، وحضر أيضاً رئيس الهيئة التنفيذية لپ"القوات اللبنانية"سمير جعجع الذي جلس في الصف الذي جلس فيه عون ولكن بعيداً منه. وحضر عدد كبير من النواب أعضاء تيار"المستقبل"ومستشار رئيس كتلة"المستقبل"غطاس خوري وكتلة"التنمية التحرير"وكتلة"الوفاء للمقاومة"والطاشناق وكتلة زحلة النيابية، ونواب من قوى 14 آذار والتكتل العوني وممثلون لحزب"الكتائب اللبنانية"، وحشد من الفاعليات السياسية والعسكرية والدينية والنقابية والاجتماعية ووفود شعبية. وحضر حشد من الديبلوماسيين العرب والأجانب على مستوى سفراء وقائمين بالأعمال منهم من: إيطاليا، بريطانيا، مصر، فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية. في الحادية عشرة تحرك الموكب مجدداً من حريصا الى الطريق الساحلية، باتجاه بيروت لمواصلة سيره جنوباً حيث كانت التجمعات الجنوبية تنتظره عند نهر الأولي على رغم الطقس العاصف والأمطار الغزيرة، لتتكرر مشاهد التصفيق ونثر الرز والورد والزغاريد والدموع المنهمرة. ومر الموكب أمام مسجد بهاء الدين الحريري عند البوليفار الشرقي لمدينة صيدا، وانتظره هناك عدد من مسؤولي تيار"المستقبل"في صيدا وعدد من المناصرين الذين رفعوا الإعلام اللبنانية وصور الشهيد، فيما علا صوت المآذن بآيات من القرآن الكريم. وعند دوار السراي، استقبل الجثمان فاعليات سياسية ومسؤولون عن الفصائل الفلسطينية وضعوا أكاليل من الزهر باسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وتوقف الموكب مجدداً في بنت جبيل وعين ابل بلدة زوجته وصولاً الى رميش التي وصلها في الخامسة والنصف مساء وأقيم جناز له في حضور فاعليات وعلى ضوء الشموع وهطول مطر غزير ما لبث أن تحول ثلجاً. هدوان عاد الى حضن بلدته تسير أرملة الرقيب الأول الشهيد خير الله هدوان وسط صفين من العسكر، يحملون أسلحتهم بموازاة صدورهم في حال من التأهب. ترفع صورة زوجها الشهيد عالياً، وتهز يديها يميناً ويساراً، فيميل جسدها كأنما تؤدي طقساً خاصاً. هي تندب زوجها مرافق اللواء الركن فرنسوا الحاج الذي قضى معه اغتيالاً قبل يومين. غير بعيد من"رقصة الموت"بين صفي العسكر أمام المستشفى العسكري في بدارو، يقف علي خير الله هدوان. يسند الصغير الذي صار يتيماً رأسه على صورة لوالده ويبكي، ثم يعود ليحضن الصورة ويبكي بحرقة تبدو اكبر. وأمام الجميع يسير عسكريون حاملين نعشي الحاج وهدوان ملفوفين بالعلم اللبناني، وقد تكللا بالمطر الذي انهمر غزيراً. تتشابه طقوس الموت والحزن كثيراً. وتعيد صورة النعشين الخارجين من المستشفى ليفترقا كل إلى مسقط رأسه، الصور التالية لكل عملية اغتيال على مسيرة أكثر من عامين. من المستشفى العسكري خرج هدوان للمرة الأخيرة، ليعبر وسط موكب مهيب، تتقدمه دراجات لقوى الأمن الداخلي الطريق المؤدية إلى بلدته حزّين قضاء بعلبك. في مدينة شتورا استقبلت حشود من المواطنين الموكب بالورد والرز على رغم الطقس العاصف. واخترق موكب التشييع ببطء الطريق الممتدة من ساحة شتورا نحو المستديرة الكبرى لمدخل زحلة وسط أجواء الحزن والحداد العام. وزادت الطبيعة من المشهد الدامع والكئيب للموكب وهو يسير في اتجاه الكرك والفرزل وأبلح فحزّين. في زحلة أقفلت المؤسسات التربوية والجامعية الرسمية والخاصة استنكاراً للجريمة. وارتفعت في المدينة لافتات الإدانة للجريمة الإرهابية التي أودت بحياة الشهيدين. ومع وصوله إلى بلدته، حمل النعش على الأكف ليجول للمرة الأخيرة على منزله، حيث أقيمت له مراسم الوداع وعزف نشيد الموت وقدمت له التحية العسكرية. وبعد الوداع، انطلق موكب التشييع إلى حسينية البلدة حيث نثرت النسوة الرز وأقيم احتفال تأبيني في حضور النواب حسين الحاج حسن، حسن يعقوب، نوار الساحلي، ممثلين عن قيادات الجيش والأجهزة الأمنية، ووفود من حركة"أمل"وپ"حزب الله"والتيار الوطني الحر وقيادات وفاعليات دينية واجتماعية. واعتبر ممثل قائد الجيش العقيد نجيب الخطيب في كلمة"أن الأوطان لا تبنى وتصان إلا بالتضحيات والدماء وعظمتها مستمدة من عظمة رجالها الأشداء". كما رأى يعقوب أن"الاستهداف رسالة للتوافق السياسي الذي توصل إلى اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان وضرب للعقيدة القتالية للجيش". وأكد الحاج حسن،"العزم على الدفاع عن لبنان في وجه العدو الصهيوني وعلى وحدة الجيش والمقاومة للخروج من هذه الأزمة". وبعد صلاة الظهر وورى الجثمان الثرى في مدافن البلدة.