اختلطت مشاعر اللبنانيين امس، في وداع وزيرهم الشاب بيار امين الجميل بين الحزن والغضب والخوف من الآتي. خرجوا من المدن والبلدات والأحياء التي لفها الحداد في مختلف انحاء البلاد في اتجاه قلب العاصمة بيروت لتشييع الشهيد السادس الذي يسقط منذ عام في ما اصطلح على تسميته بثورة الأرز. النداءات الى المشاركة في تشييع جثمان الجميل ورفيقه سمير الشرتوني اللذين اغتيلا بكواتم للصوت في محلة الجديدة قبل يومين، استجاب لها مئات الآلاف من اللبنانيين الذين بدأوا التقاطر الى ساحة الشهداء منذ الصباح الباكر حاملين الاعلام اللبنانية ورايات حزبية وصور الشهيد مذيلة بعبارة"انا احب الحياة - الانتفاضة الثانية". وغلب هتاف"بيار حي فينا"على بقية الهتافات، فيما حصدت المطالبة بالمحكمة الدولية اكثر اللافتات، على اعتبار ان بيار الجميل هو شهيدها الذي في ذروة الصراع الداخلي على تشكيلها. في جنازة الشهيد الجميل مزجت قيادات 14 آذار، التي يعتبر الجميل احد اركانها، بين همين: تشييع الراحل بمأتم رسمي وشعبي حاشد، والاثبات للمعارضة بأن"الاكثرية الوهمية"حقيقة لا تقبل الشك. وكان الهاجس الأمني هو العنصر الأكثر إثارة للقلق للمشاركين في المأتم باستثناء رجال الدين الذين بدوا وحدهم متحررين من المرافقين. "ابن الرابعة والثلاثين ربيعاً لا يجوز في قاموس الحياة ان يخطفه الموت باكراً، والموت بالإكراه"، كما وصفته سيدة جاءت من زغرتا للمشاركة في التشييع. لذا اختارت ان تسمي التشييع بپ"الزفاف"، ولم تكن وحدها التي اطلقت الزغاريد ونثرت الرز وأوراق الزهور على موكب الجثمان الذي استغرق انتقاله من بكفيا مسقط آل الجميل الى كنيسة مار جريس في وسط بيروت نحو اربع ساعات. اهالي بكفيا ودعوا ابن البلدة الواعد بالتصفيق والزغاريد. وكان صعب على العائلة ان تفارق فقيداً آخر يخسره بيت سياسي عريق في معركته من اجل لبنان الذي يريده. أمضى جثمان الجميل ليلته الأخيرة مسجى في دارة العائلة، وحين دقت ساعة الوداع تحلقت العائلة المنكوبة، الرئيس أمين الجميل وزوجته جويس وأرملة الشهيد باتريسيا وشقيقه سامي وشقيقته نيكول وزوجها وعمتها الأخت أرزة، حول النعش الذي لف بالعلم اللبناني والراية الكتائبية في لحظات مؤثرة فيها الكثير من الدموع. ... الى بيروت انطلق موكب الجثمان في التاسعة والنصف صباحاً شاقاً طريقه بصعوبة وسط قرع أجراس الكنائس، ودع الجميل بكفيا التي احبها رقصاً على الأكف وبينها كفا شقيقته نيكول، وحمله كتائبيو بكفيا باتجاه المحطة الأولى في بيت الكتائب - بكفيا لينطلق مجدداً باتجاه نصب مؤسس حزب الكتائب جده بيار الجميل عند المدخل الغربي للبلدة حيث كان وقف الشهيد قبل ساعات من اغتياله ليضع إكليلاً من الزهر عشية ذكرى الاستقلال. وتوقف الموكب في محطات عدة على ساحل المتن الشمالي قبل وصوله إلى الكاتدرائية في وسط بيروت، أبرزها في إنطلياس وجل الديب والدورة وبيت الكتائب المركزي في الصيفي. وهناك رفع على الاكف مجدداً الى جانب نعش الشرتوني، وشق النعشان طريقهما بصعوبة وسط الحشود من أمام مبنى صحيفة"النهار"صعوداً الى ممر معزول بموازاة ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري ثم بموازاة مسجد الأمين وصولاً الى الكنيسة. وكانت الإجراءات الامنية قضت بعزل محيط الكنيسة ما أمكن عن بقية الحشود التي فاضت بها ساحة الشهداء في اتجاه ساحة رياض الصلح، وراح الناس يتسربون من خلف الحواجز الحديد الى الرصيف المقابل للكنيسة لوداع الجثمان ومشاهدة القيادات المشاركة في التشييع. وحشدت قوى الأمن الداخلي عشرات العناصر في محيط الكنيسة وكذلك الجيش اللبناني وفرق التدخل السريع والشرطة القضائية وحضر عشرات من رجال الأمن بلباس مدني وانتشر الجنود على سطوح الأبنية المجاورة والمحيطة وعلى سطح الكنيسة، وفاض مدخل الكنيسة بأكاليل الزهر وبينها من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، واخضع الجميع الى تفتيش دقيق في الطرقات وعند مدخل الكنيسة وأشركت الكلاب البوليسية في تفتيش معدات الاعلاميين الذين كانوا بالعشرات وبينهم أجانب كثر. اختبار للشعبية... واستبق بعض السياسيين الحشود الى المنطقة وبقي في أبنية مجاورة حرصاً على سلامته، وخضع السياسيون الى ما يشبه اختبار شعبيتهم"وطنياً"، فكثر التصفيق والهتاف للوزراء على اعتبار ان المعارضة تسقط عن الحكومة دستوريتها، والدعاء بان"يحميهم الله"، ولم يتوان الجمهور عن الهتاف غضباً لنواب من كتلة"التنمية والتحرير"التي يترأسها رئيس المجلس النيابي نبيه بري وهم علي حسن خليل وأيوب حميد وعلي بزي على اعتبار، كما قال شاب اعترض على وصولهما"ان بري يعتبر نفسه طرفاً مقابلاً لقوى 14 آذار". الهاجس الامني دفع القوى الامنية الى مواكبة الوزراء بپ"الجملة"خوفاً من اصطياد احدهم، ما يهدد استمرارية الحكومة دستورياً، فيما ابقي وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازيه الذي مثل الرئيس جاك شيراك في الجنازة، في خيمة قريبة من ساحة رياض الصلح لبعض الوقت قبل ان يتزامن وصوله الى محيط الكنيسة مع وصول عقيلة الرئيس بري رندة. ولم ينج من صيحات غاضبة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي ولا النائب السابق نادر سكر. صيحات التأييد انطلقت من حناجر المحتشدين لدى وصول عقيلة رئيس الهيئة التنفيذية لپ"القوات اللبنانية"النائب ستريدا جعجع، وكانت سرت إشاعة صباحاً عن تعرض الدكتور سمير جعجع لحادث أمني تولت"المؤسسة اللبنانية للارسال"نفيها، وهتفت الحشود لرئيس"اللقاء الديموقراطي"النيابي وليد جنبلاط وللسفير السعودي عبدالعزيز خوجة ثم لممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان غير بيدرسون، وللوزراء غازي العريضي وشارل رزق ومروان حمادة وميشال فرعون الذي لوح بقبضته، وقائد الجيش العماد ميشال سليمان، ولرئيس المكتب السياسي في"الجماعة الإسلامية"أسعد هرموش، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، وهتفوا بصيحات مدوية لرئيس"كتلة تيار المستقبل"النيابية سعد الحريري الذي تقدم ضمن موكب مموه لكنه حين نزل من سيارته أمام الكنيسة بادل الحشود التحية، وللدكتور جعجع الذي وصل بسيارة من نوع"رانج روفر"وارتفعت رايات"القوات"عالياً وصرخت الحناجر"حكيم". ووصل الرئيس بري الى المكان بموكب أحيط بعشرات العسكريين من حرس المجلس النيابي، واستقبل البطريرك الماروني نصر الله صفير الذي مشى الى الكنيسة يرافقه معاونه المطران رولان أبو جودة بحفاوة كبيرة، وهتفت الحشود تحية للامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وللسفير الاميركي جيفري فيلتمان وللاعلامية مي شدياق التي كانت استهدفت بمحاولة اغتيال نجت منها. وكان الترحيب الاكثر تميزاً لمفتي صور وجبل عامل السيد علي الامين الذي عرف بمواقفه المتمايزة عن"حزب الله"بل المعارضة لتوجهات قيادته، ومشى الى جانبه النائب باسم السبع، وهتف الحشد بالدعوات للسيد الأمين بأن"يحميك الله"وپ"يا وطني يا شريف". وفي الواحدة والدقيقة الخامسة وصل نعشا الوزير الجميل والشرتوني الى الكنيسة وسط تصفيق الحشود التي اطلقت هتافات ضد سورية ونثر بعضهم الرز على النعش. في داخل الكنيسة، جلس في مقدم الحضور رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي أحيط وصوله بإجراءات سرية، الى جانب الرئيس بري والى جانبه موسى، وغاب طبعاً عن الحضور ممثل عن رئيس الجمهورية اميل لحود. وجلست عائلة الجميل والى جانبها النائب صولانج الجميل والسيدة بري وعقيلة الرئيس السنيورة والنائب نايلة معوض وعقيلة الرئيس الراحل الياس الهراوي السيدة منى والنائب بهية الحريري. وحضر وزير الاسكان المصري احمد المغربي ممثلاً الرئيس حسني مبارك، وزير العدل القطري حسن عبدالله الغانم ممثلاً أمير قطر، وجلس في المقاعد الخلفية وزراء ونواب الاكثرية، كذلك حضر رئيس الطائفة القبطية في لبنان الأب فيلوباتير الأنبا بيشون ممثلاً البابا شنودة الثالث، رئيس حزب الأحرار دوري شمعون، عميد الكتلة الوطنية كارلوس إده، بالإضافة إلى عدد من السفراء العرب والأجانب والبعثات الديبلوماسية والقنصلية وشخصيات سياسية وحزبية ودينية وقضائية واقتصادية ونقابية وأمنية وإعلامية وهيئات أهلية. وشارك في تلاوة الانجيل مطران بيروت للروم الارثوذكس الياس عودة، وألقى أمين سر السفارة البابوية في لبنان بيس بالداس كولبوكاس رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر الى الرئيس الجميل وفيها:"يقدم اليكم قداسة البابا تعازيه الحارة ويؤكد صلاته من أجلكم ومن اجل زوجة الفقيد ومن اجل كل عائلتكم المفجوعة بفعل جديد عصي على الوصف. ويدعو الخالق ان يستقبل في نور ملكوته من التزم في الحياة العامة لخدمة بلده وأخوته اللبنانيين. ويتمنى ان يكون جميع اللبنانيين متضامنين في هذا الظرف. ويجدد التزامه باعادة بناء لبنان مستقل ودائماً اخوي، مع الحرص على المشاركة الفاعلة لجميع فئات المجتمع". كلمة صفير وألقى البطريرك صفير الذي ترأس صلاة الجناز، كلمة استهلها بقول السيد المسيح:"كونوا مستعدين، لأن ابن الانسان يجيء في ساعة لا تخالونها"، مؤكداً ان القول هذا"يصح في كل مكان على الارض. ولعله يصح عندنا أكثر منه في اي مكان آخر وقد شيعنا في السنة الفائتة عدداً من الشهداء ذهبوا ضحية اربعة عشر اغتيالاً او محاولة اغتيال. كلهم من قادة الفكر، ورجال القلم، وأرباب السياسة، وهم من كل الطوائف والمذاهب. وكان رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري ابرز من غابوا في مثل هذه الظروف المأسوية. وفات المجرمين ان الله وحده يحيي ويميت، وان القتل امتهان كبير لكرامة الله، الذي له وحده الانتقام". وأضاف:"المصاب الأليم الذي حل عشية عيد الاستقلال بمشايخ آل الجميل الكرام، إنما هو مصاب لبنان بأحد أبنائه البررة، ووزرائه الناشطين. انه الفقيد الشاب العزيز الشيخ بيار الجميل الذي لم يتجاوز الرابعة والثلاثين. وكانت تعلق على همته العالية، وشبابه الغض، وعلمه الوافر، آمال كبار، زاهية. لكن يد الغدر اصابته ففجعت بغيابه المبكر والده الشيخ أمين الجميل ووالدته الثاكلة وقرينته المفجوعة وولديه اللذين سيكبران من دون ان ينعما بحنان الأب وعطفه. واثبت، رحمه الله، جدارة كبيرة في ممارسته مهام وزارته، وهو المحامي اللامع، لكنه ما لبث ان دخل عالم الصناعة، واستعان بالخبراء فيها، فاصبح يفقه أسرارها، ويدير شؤون الوزارة في مهارة وكفاية، وبما عرف عنه من علو همة، وصلابة إرادة، وصدق وطنية. لا شك في ان المصاب به جلل على جميع ذويه وقادريه وأقرانه في حزب الكتائب اللبنانية، ولكن ما أعرب عنه والده الشيخ رئيس الجمهورية الأسبق، كان له أطيب الوقع في نفوس الناس أجمعين، وهو قوله:"الساعة ساعة صلاة، فلا انتقامات، ولا انتفاضات". وزاد:"ولكن يبقى على العدالة ان تكتشف الفاعلين، وتنزل بهم اشد العقاب الرادع، منعاً لتكرار مثل هذه الفواجع المؤلمة. وسبق لآل الجميل ان قدموا للوطن غير شهيد، وعلى رأسهم المرحوم الشيخ بشير، رئيس الجمهورية الأسبق، الذي سقط شهيد الواجب والوطن. لكن هذا الاغتيال الذي اودى بحياة الفقيد الشهيد اليوم، يختلف عما سبقه من اغتيالات. وقد تجرأ فاعلوه على القيام به، في وضح النهار، وهم سافرو الوجوه، في منطقة مكتظة بالسكان، وكأنهم لا يخشون ملاحقة أو عقاباً. وقد افرغوا في جسم الضحيتين: الوزير ومرافقه، ما فوق العشرين رصاصة، ولاذوا بالفرار، وكأن شيئاً لم يكن وهذا منتهى الوقاحة والفجور". وتابع صفير:"لكن السؤال الأبرز الذي يطرح في مثل هذه الجرائم النكراء، البكماء: لماذا هذا الإجرام الكبير؟ وقد سبق ان قيل: سيكون هناك اغتيالات، ستؤدي بحياة غير وزير، محاولة من المجرمين ومن وراءهم، لمنع قيام المحكمة الدولية، والانعقاد للاقتصاص من المجرمين جزاء ما جنته أيديهم. وهكذا يتواصل مسلسل الاجرام، لمنع عودة لبنان الى الاستقرار، وأهليه الى الأمان والسلام، فيلوذون بالهجرة، ويتم لأعدائهم ما يريدون، وتناسوا ان في لبنان شعباً يأبى الضيم، وتشد جماعاته وأفراده بعضهم الى بعض أواصر متينة من التعاون والتفاهم ومحبة الوطن. وهذا ما يسعى وراءه العالم اليوم التواق الى ألفة تسود جميع شعوبه، وان اختلفوا أدياناً، ومذاهب، واتجاهات سياسية. وان ما يدخل العزاء الى القلوب ان المسؤولين في العالم اجمع، من رؤساء دول وحكومات بادروا الى تقديم التعازي بهذا الخطب الجلل، وأعربوا عن تضامنهم مع بلدنا الصغير، وفي مقدمهم فخامة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي أوفد وزير الخارجية الفرنسي ليشترك معنا اليوم في الصلاة. وهذا دليل على ان لبنان، على رغم صغر رقعته، لا يزال يستثير مشاعر الدول كبيرها وصغيرها، وهي تمد له يد المعونة، والمساعدة". ورأى صفير انه"يبقى على اللبنانيين ان يعرفوا ما لبلدهم من قيمة تاريخية وانسانية، فلينبذوا الأحقاد والخصومات، ويتعاونوا لإنهاضه من كبوته، وإعادته الى سابق عهده من الطمأنينة والاستقرار. ومن شأن هذا التعاطف الذي نلقاه من المسؤولين في العالم، ان يحملنا، على ان نحزم امرنا ونعود الى بعضنا بالتفاهم، والمحبة، والى وطننا الصغير لبنان بما يستوجبه منا من رعاية وعناية، لنعيد بناءه على أسس ثابتة من التعاضد والألفة والسلام". وتوقف عند رؤية"طلاب الجامعات عندنا يقتتلون، وكل فئة منهم ترفع أعلام الحزب الذي تنتمي اليه، دونما اهتمام بما يجب ان يكون لديهم موضع الاهتمام الأوحد، وهو دروسهم التي ستمكنهم يوماً من خدمة بلدهم خير خدمة وعلى كاهل كل من اللبنانيين تقع مسؤوليات جسام في هذه الأيام، وهي مسؤولية إعادة إعمار البلد، وإيفاء الديون التي تتزايد كل يوم، وبعث الثقة مجدداً في نفوس المواطنين الذين يتسابقون على أبواب السفارات طلباً لجواز سفر، ولو الى بلد بعيد قد لا يلقون فيه من أسباب العيش الكريم ما خلفوه وراءهم في بلدهم الصغير لبنان". وتقبلت العائلة التعازي. ثم أخرج النعشان من الكنيسة على وقع صوت الشهيد جبران تويني يتلو قسم اللبنانيين للوحدة، وبعدما خاطب زعماء قوى 14 آذار من وراء زجاج واقٍ: جنبلاط والحريري وجعجع والرئيس الجميل وحمادة، وتلاهم ممثل الجماعة الاسلامية هرموش الكلمات ص 3، الحشود في ساحة الشهداء. وحمل النعشان على وقع النشيد الوطني الذي عزفته الفرقة الموسيقية لقوى الأمن الداخلي، وعلى وقع هتاف واحد:"بيار حي فينا"كان يردده القواتيون للرئيس الراحل بشير الجميل. ونقل جثمان الجميل الى بكفيا ليوارى في مدافن العائلة، فيما نقل جثمان الشرتوني الى مسقطه شرتون.