احتفت إسبانيا، والعرب كذلك، بمرور ستمئة سنة على وفاة العلاّمة ابن خلدون، وفي مقابر الصوفية التي اندرست إلى الشمال من القاهرة القديمة، دفن ابن خلدون، لكن مع غيابه الجسدي، لا يزال فكره وعلمه يعملان عملهما بيننا، ففي الشرق أثار ما أثاره من نقاش، وفي الغرب كذلك، وها نحن اليوم مازلنا نرى أن ابن خلدون يمثل محكاً للحوار والنقاش. لكن لماذا ابن خلدون؟ ابن خلدون رجل السياسة انغمس فيها واحتك بملوك بني نصر في غرناطة، وابتعث إلى اشبيلية لمحاورة ملوكها، كما كان في دمشق مبعوثا لمحاورة تيمورلنك، عاش دسائس السياسة ومكائدها، لذا بات نقطة الانطلاق عندي للحديث عن أهمية الحوار بين الحضارات، وقد انعكست تجربته السياسية الفريدة عندما كتب مقدمته الشهيرة. المفاهيم تتغير! ما كان مقبولا خلال القرن الرابع عشر وما تلاه من قرون من سياسات ومفاهيم لم يعد مقبولا اليوم، وعلى رغم أن قيم التسامح وحفظ العهود، بل حرية العبيد التي رسخها الإسلام حينما حل كديانة عالمية، إذ كانوا يعاملون معاملة قاسية ولم يكن من السهل إعتقاء رقبة أي عبد، في حين صعد العبيد المماليك إلى حكم مصر وبلاد الشام، ولم يكن ذلك مستهجناً لدى المسلمين. وإذا قارنا ذلك بحقوق السود في الولاياتالمتحدة الأميركية حتى سبعينات القرن العشرين اكتشفنا مدى تضاؤل حقوق الإنسان بين حضارتين، الأولى تسامحت مع الأرقاء وصعدوا إلى سدة الحكم والثانية، حتى بعد تحرير العبيد، ظلت لا تعترف بحقوقهم كاملة. من هنا يجب فهم أن القيم والمفاهيم يمكن أن تختلف النظرات إليها من حضارة إلى أخرى، وما يمكن أن يكون مقبولا في الشرق قد لا يكون مقبولا في الغرب، والعكس صحيح، لكن هناك قيمة كبرى اتفقت البشرية عليها في عصرنا الحاضر، وهي احترام الأديان ودور العبادة، فالإكراه الديني لم يعد حق المنتصر في الحروب أو في حالات السلم، فحرية العبادة والاعتناق صارت من المفاهيم المعترف بها الآن، لكن في عصر ابن خلدون تنصر أهل اسبانيا من العرب عنوة، فيما فر الرافضون ولم يحدث مثل ذلك في أوروبا الشرقية حين توسعت فيها الدولة العثمانية، فالتسامح الديني لدى المسلمين كان قاعدة رسخها الإسلام حيث لا إكراه في الدين. كل هذا لا ينفي أن احترام دور العبادة في ذلك العصر لم يكن أمراً وارداً في المفاهيم العالمية، فعلى رغم تشديد الإسلام على ضرورة احترام دور العبادة الخاصة بالأديان الأخرى، جرت العادة، بخاصة في ظل احتدام الصراع الإسلامي - الصليبي، على تحويل دور العبادة من مساجد إلى كنائس والعكس بالعكس، حدث هذا حين هزم المسلمين في موقعة العقاب سنة 1212م في الأندلس، إذ سقطت في أشبيلية وحول مسجدها إلى كنيسة سان سلفادور ومازالت المئذنة التي حولت إلى برج كنيسة شاهدة على ذلك، وكذلك الحال بعد سنوات حين سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح إذ تحولت كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد جامع لعاصمة الدولة العثمانية الجديدة. من الأمور اللافتة للنظر في الخطاب المعاصر الحديث عن نشر الديموقراطية الغربية في البلاد العربية، أن هذا الخطاب الذي يفهم على الفور في الوطن العربي على أنه بداية للاستعمار في ثوب جديد، يحمل في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب. ويبدو أن الغرب لم يأخذ في حسبانه أن الديموقراطية لا تترسخ إلا عند رغبة الشعوب في أن تصبح من مكتسباتها التي حصلت عليها بعد عناء شديد، ناسياً أن مسؤولية الحاكم أمام شعبه أقرها علماء السياسة الشرعية من العرب قبل الغرب بسنوات طويلة، بل أصبح هناك موجبات لدى المسلمين تستلزم عزل الحاكم. وها هو ابن خلدون يشترط في الحكام شروطاً أربعة هي:"العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل"، ثم نجد عند ابن خلدون عبر صفحات المقدمة اهتماماً خاصاً بالدولة وعمرها وتطورها، هذا الاهتمام مبعثه سببان: الأول هو معاصرته لسقوط العديد من الدول، والثاني هو نظرة المسلمين في حضارتهم إلى الدولة ككيان يعبر عن الأمة. لكن في ذلك الوقت ظل العديد من المعالجات حول أسلوب الحكم الرشيد محط نظر، إذ ظلت فكرة تداول السلطة بين العصبيات الأحزاب في صورتها المعاصرة سبب صراع مسلح قد يقضي فيه طرف على الأخر بالاقتتال، ومن هنا نستطيع أن نتلمس تلك النقلة التي أحدثها الفكر المعاصر تجاه تداول السلطة بدلاً من النزاع بين العصبيات. لعل القرن، الذي كتب ابن خلدون فيه المقدمة عكس مرحلة انتقالية بين فكر هذه الشخصية الفذة التي عكست الانتعاش الثقافي والاقتصادي للعالم الإسلامي، والأحوال المتردية لأوروبا التي بدأت تشهد في القرن نفسه فوراناً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قدر له أن ينقل أوروبا نقلة حضارية مهمة. لقد كان العالم في تلك الحقبة يموج بالتقلبات المتعاقبة بين التقدم تارة والتراجع تارة أخرى مع كثير من التبدلات. عكس فكر ابن خلدون في القرن الرابع عشر تسامح العالم الإسلامي واستيعاب الفكر الإسلامي للعالم لجهة التنوع، فقد اعتبر أن الاختلافات بين الشعوب والأمم نقطة ايجابية من وجهة النظر العرقية واللغوية، فالتنوع يتأثر بكيفية حياة البشر ونواتج الأرض، والمصنعات، والعلوم والتقنيات، والأخلاقيات وأخيراً الدين. اعتبر ابن خلدون هذا التنوع ضرورة لنمو العلاقات الثقافية والسياسية بين الأمم، بل نراه يشير إلى العلمانية في المجتمعات البشرية حين يذكر أن العديد من المجتمعات البشرية تحيا من دون شرائع إلهية، وتعتمد في أنظمتها الاجتماعية والسياسية على القوة والمنطق، بل نجد لديه أيضاً تعريفاً متقدماً على معاصريه لمفهوم الأمة، فهي عنده كيان عرقي وسياسي وثقافي في الوقت نفسه، وهي نموذج يمثل الكيان البشري بالمفهوم الواسع من دون اعتبار للحدود الإقليمية، والدينية أو المكانية. إن هذا المفكر المبدع يقودنا إلى مفاتيح عصره، بل إلى مفاتيح طبيعة العلاقة بين البشر، إذ، لسلامتها يجب ان تقوم على تبادل متكافئ للمصالح، ففي القرن الرابع عشر شهدت أوروبا تحولا بعيداً عن التعصب الديني، كما شهدته مصر المملوكية، حين وقعت البندقية معاهدة مع مصر تعطي فيها الأولوية للمصالح الاقتصادية والتجارية، فحدثت نقل مهمة في العلاقات بين العالم الإسلامي وأوروبا، وأصبحت المنفعة المتبادلة أساساً لعلاقة سليمة. نستطيع أن نستكشف اختلاف مفهوم السياسة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، فماهية السياسة في الفكر الغربي هي فن الممكن الذي يقوم على تعظيم الاستفادة من كل موقف بحسب مقتضياته، فهي حركة تنظيمات عضوية تستخدم كل ما هو متاح وممكن من الأدوات والنظريات والوسائل، وتبدل قيمتها وغاياتها ومفاهيمها حسب ما تفرضه المواقف ومقتضيات اللعبة السياسية، في حين أن ماهية السياسة الشرعية تكمن أساساً وفي المقام الأول في كونها تعبيراً عن حركة وتنظيمات منضبطة ابتداءً ومساراً ومقصداً، فهي عند ابن خلدون"قوانين سياسية"أو هي بحسب تعريف ابن الأزرق"ذلك القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال"، الأمر الذي يجعلها بحق رعاية متكاملة لكل الشؤون، وقياماً على كل الأمور يصلحها واستصلاحاً للخلق كافة بإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم. ما سبق عرضه من اختلاف مفهوم السياسة بين الشرق والغرب، فضلا عن اختلاف المسار التاريخي في كلتا الحضارتين، يكشف عن اختلاف في تطور العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومسؤولية الحاكم تجاه شعبه، هذا المفهوم لم يتطور في الغرب إلا بإرهاصات كانت عنيفة بلغت ذروتها في أحداث الثورة الفرنسية، ومن هذه الإرهاصات وصية الملك فيليب أغسطس سنة 1190م التي يقول فيها" إن مهمة الملك تتمثل في تسخير كل الإمكانات لخدمة حاجات رعاياه، فيضع الصالح العام فوق المصالح الشخصية"مثل هذه الوصايا فضلا عن القبضة الحديدية للكنيسة والتشدد الحاد للنظام الإقطاعي، تولد منها صراع بين الشعوب الغربية والكنيسة والملوك، أما في الشرق فلم يكن هذا وارداً بصورة أو بأخرى. إن الدولة الحديثة التي تعني ازدهار العلمانية، وحق السيادة، وتوسع الحكومة بمؤسساتها وضرائبها وتبادل السلطة بين الأحزاب، مفاهيم تتطور بصور مختلفة في العالم الإسلامي، لكن ليس بالكيفية نفسها التي مرت بها الدولة الحديثة بمراحلها في الغرب. تطور إذاً العديد من المفاهيم التي تعلي من سلطة الشعب، وحاول مفكرو الغرب، ومن تبعهم من العرب فهم طبيعة المجتمع المدني في العالم الإسلامي، إذ أن هذا المجتمع نشأ من فكرة الوقف الخيري، حتى تعددت الأوقاف وتنوعت من وقف لرعاية المسنين إلى وقف على الحيوانات الضالة إلى وقف اقتصادي كالوكالات والفنادق والخانات لمصلحة طلبة العلم، وهو ما تقابله اليوم لدى الغرب فكرة Endowoment أو الوديعة و Foundition أي المؤسسة الراعية لأي نشاط. غير أن العالم الإسلامي ومنذ مطلع القرن التاسع عشر حجم مؤسسة الوقف ودورها بصورة قلصت دور المجتمع في الرعاية الاجتماعية والعلمية بصورة غير مسبوقة، وإعادة الحيوية إلى مؤسسة الوقف طبقاً للمفهوم الشرقي ستدعم وتنمي حركة المجتمع المدني العربي والإسلامي، وهو ما سيساعد على قيام حوار حقيقي بين المجتمع المدني في الشرق والغرب بصورة حقيقية. وليس على الصورة الشائعة حالياً وهي انتظار الشرق العربي المنح والهبات لنشر حقوق الإنسان أو الديموقراطية في البلاد العربية. ان انعدام هذا التكافؤ بين المجتمع المدني في الوطن العربي ومقابله في الغرب، يفقد المجتمع المدني العربي وأفكاره ومفاهيمه مصداقيتها أمام الجمهور في المنطقة العربية. القبة ومدلولاتها إن الحوار هو محاولة للوصول إلى أطر مشتركة للتفاهم وتبادل المصالح أما المنافسة فستبقى قائمة، لأن المنافسة هي التي تخلق التحدي الحضاري والرغبة في التقدم، ففي العصور الوسطى، ظهر هذا في القبة كمفردة معمارية. يعرف نموذج تاج محل بأضرحة الحدائق، وإن كان بناؤه ارتبط بوفاء شاه جهان لزوجته، إلا أنه ضريح سلطوي يعبر عن قوة السلطة واستقرارها في الهند، ومن أبرز نماذج هذه الأضرحة في الهند ضريح همايون في دلهي 1565م، وهو إن كان أقل جمالا من تاج محل إلا أنه يشبهه، ويشكل ضريح تاج محل قمة التطور نحو الكمال الفني والمعماري. يقودنا استخدام القبة في العمائر الضريحية، إلى لفت الانتباه إلى أن القبة كمفردة معمارية تغري بتحميلها مدلولاً رمزياً. ظهر هذا في صورة تحد حضاري قبله العثمانيون حينما أرادوا التفوق على آيا صوفيا، فعندما فتحت القسطنطينية دخلها السلطان محمد الفاتح ثم زار كنيسة آيا صوفيا. وأمر بأن يؤذن فيها للصلاة إعلانا بجعلها المسجد الجامع للمدينة، وأعطى الفاتح حرية العبادة للديانات في المدينة في عقب ذلك. ومنذ ذلك الحين مثلت قبة آيا صوفيا بضخامتها وارتفاعها الشاهق تحدياً حضارياً للعثمانيين، وأخذ المعماريون هذا التحدي مأخذ الجد، وكان هدفهم ليس تقليد آيا صوفيا بل التفوق عليها، ومن هذا المنطلق اتخذوا من القبة المركزية رمزاً للدولة العثمانية والإسلام، حيث اعتبر المسجد الرمز الحي للإسلام الذي تسعى الدولة إلى نشره كدين، وتمثل القبة المركزية في المسجد الدولة، بينما تمثل القباب الأصغر الأقاليم والولايات التابعة لها، ويؤكد هذه الرمزية استخدام القبة كوسيلة رئيسة للتغطية قبل فتح القسطنطينية، وكانت القبة عند قدماء الأتراك تمثل السماء. ومن المحتمل في ضوء ذلك أن تكون القباب عندهم رمزاً للسماء التي تغطي وتحمي الدولة خصوصاً مع ملاحظة أن الأعمدة والدعائم التي كانت تحملها يسجل عليها أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة الذين اعتبرتهم الصوفية أقطاباً يحملون أركان العالم. علقت قبة آيا صوفيا في أذهان العثمانيين والأوروبيين، خصوصاً مع التأثير الضخم الذي تركته كنيسة آيا صوفيا هاجياً صوفياً منذ إنشائها في القرن السادس الميلادي بكل فخامتها، على عمارة الكنائس في أوروبا، وفي هذه الكنائس استخدمت القبة شبه الكروية في شكل تغلب عليه الرمزية، ولم يكن قطر قباب هذه الكنائس يتعدى العشرة أمتار، ورفعت على أعمدة عالية، وهي طريقة لم يستخدمها المعماريون العثمانيون. لقد حافظت القبة في أوروبا على دلالتها الرمزية، ففي كنيسة القديس بطرس في روما كان إنشاؤها مشروعا يحمل مفهوماً مثالياً ونظرياً تصوره ليوناردو دافنشي في أول الأمر، ثم طوره برامانت، ولكن الذي بناه هو مايكل أنجلو الذي أضاف عليه المزيد من التحسينات الإنشائية، ولعل استمرار التنويع في تصميم القبة يوضح مدى رسوخ القبة كمفهوم رمزي في التقاليد الأوروبية، بدءاً من استخدامها في الكنائس حتى بناء قاعات الاجتماعات في القرن العشرين. شاع في أوروبا اختلاف الشكل الخارجي عن الداخلي للقبة، إذ شيدت القباب بصدفتين واحدة خارجية وأخرى داخلية، وأولى المعمار مطلق عنايته للشكل الخارجي، وهو ما يبين مدى رمزيتها في التعبير عن المبني من بعد، ويختلف المعمار العثماني عن الأوروبي في ذلك، فهو يطبق حساب المثلثات للقباب شبه الكروية ذات الشكل الخارجي والداخلي الموحد مع تطوير تكاملها في ملامح الشكل الخارجي المركب والفراغ الداخلي، ما اوجد لديهم معالجة مكانية أصلية كاملة، جوهرها الإنشائي هو البساطة المتفردة في تاريخ طراز القباب، باستثناء معابد الرومانية، وكذلك عناصر الأضرحة الإسلامية في الشرق. ودأب الأتراك تبعاً لسيطرة فكرة آيا صوفيا على أذهانهم على المقارنة المعمارية ما بين تخطيط مسجد بايزيد وتخطيط آيا صوفيا. شيد مسجد بايزيد في اسطنبول بين عامي 1501 و 1506م، على يد المهندس خير الدين، وبصرف النظر عن وجود قبة مركزية ونصفي قبة في المسجد، فإنه لا وجه لمقارنة أحد المبنيين بالآخر، لا من حيث التخطيط ولا من حيث أسلوب البناء، والحقيقة أنهما يختلفان تماماً، وكل منهما عالم مستقل بذاته، فمسجد بايزيد يمثل تطوراً طبيعياً للعمارة العثمانية السابقة عليه، أما آيا صوفيا، وإن أثارت إعجاب المعماريين العثمانيين، فالأفكار التي أوحت بها إليهم كانت موجودة في أساليبهم وفنون عمارتهم. استمر المعماريون في اسطنبول في تطوير عمارة القباب، فشيد مسجد سليم الأول بقبة بلغ قطرها 24 متراً، وهي بذلك تمثل نجاحاً رائعاً من الناحية التقنية، إلا أنها تفتقد دفء الإبداع، فثقل القبة يقع على الجدران، وهي غير مرتفعة وهو ما عكس ضعفها وعدم تعبيرها عن قوة السلطة أو قوة عمارتها. ظفر عصر كل من السلطانين سليمان القانوني وسليم الثاني بالمعماري العظيم سنان، الذي استكشف في أول أعماله ما يمكن أن يعطيه الفراغ المتاح آخذا في الاعتبار استمرارية التقاليد المعمارية العثمانية التي ظهرت في أزنيك وبورسة وأدرنة، وتظهر أهم مراحل عبقرية سنان المعمارية من خلال ثلاثة آثار عظيمة هي: مسجد شهر زاده ومسجد السليمانية في اسطنبول والسليمية في أدرنة. أبدع سنان وهو في الثمانين من عمره مسجد السليمية في أدرنة، واشتمل هذا المسجد على كل الابتكارات والتجديدات التي استحدثها سنان حتى ذلك الحين، إضافة إلى مستحدثات العمارة العثمانية، واستغرق بناء هذا المسجد خمس سنوات من 1569 إلى 1574م، وهو يمثل الرمز الحي لمدينة أدرنة وللدولة العثمانية. أنشئ هذا المسجد بأمر من السلطان سليم الثاني ويظهر هذا الأثر متجلياً من بعيد بقبته الكبيرة، ذات القطر البالغ 31,50 مترا، أي أكبر من قطر آيا صوفيا، وبمآذنه الأربع الرشيقة، التي تدور حول رقبة قبته المثمنة، وتتوافق ضخامة القبة وارتفاعها مع المساحة الكبيرة في الداخل، حتى لكأنه يمكن اعتبارها قمة التطور في بناء القباب في العالم بأسره. وجاء في"تذكرة البنيان"التي يقال أنها من إملاء سنان، وصف لهذه المنشأة بقوله"وترتفع المآذن الأبرع عند أركان القبة الأربعة، ولكنها ليست غليظة كالبرج، مثلما هو الحال في مآذن أوج شرفلي، ولا يخفى بالطبع ما هناك من صعوبات تواجه بناء مآذن سامقة كمآذن السليمية، التي تضم كل منها ثلاثة سلالم منعزلة، وإذا كان شاع بين المهندسين المسيحيين القول بتفوقهم على المسلمين، لأنه لم تقم في العالم الإسلامي كله قبة تضارع أو تنافس آيا صوفيا، فقد حز في نفسي كثيرا أن يقال أن بناء قبة بمثل ضخامة آيا صوفيا، ربما يكون من الأعمال العسيرة ولهذا قررت مستعيناً بالله، إقامة هذا المسجد، في عهد السلطان سليم خان، جاعلا قبته أوسع من آيا صوفيا بمقدار ستة اذرع وأعمق منها بمقدار أربعة اذرع"، وقبة السليمية محمولة على ثماني دعامات قوية، لها سنادات طائرة. وإذا كانت للقباب في بعض استخدامها رمزية سياسية، مباشرة كانت أو غير مباشرة، فقد استخدمت أيضا للتعبير عن مقر الحكم أو العرش بصورة صريحة فقد كانت تعلو قصر الإمارة في دمشق قبة خضراء أعطت القصر اسمه، كما قلد الحجاج سادته بإقامة قبة خضراء لدار الإمارة في واسط، وكانت تعلو قاعة العرش أو الحكم في قصر الذهب في بغداد قبة كبيرة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح يعبر عن قوة الدولة وبطشها في مواجهة أعدائها، وفي سامراء تميزت الدار الخاصة بالخليفة المعتصم بجناح قاعة العرش المؤلف من قاعة مربعة مركزية مسقوفة بقبة، واستخدمت القبة الخضراء كذلك لتسقيف دار العدل في قلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة التي شيدها الناصر محمد بن قلاوون لتكون مقراً لنظر المظالم ولاستقبال السفراء وكذلك للعرش المملوكي، ومقراً للاحتفالات الرسمية، وهكذا كان للقبة مدلول سلطوي رمزي منذ فترة مبكرة في تاريخ العمارة الإسلامية. واليوم في القرن الحادي والعشرين ما زال الارتفاع الشاهق دليل عظمة البنيان، فبرجا مركز التجارة في نيويورك كانا يعبران عن عظمة الولاياتالمتحدة الأميركية وسيطرتها على الاقتصاد العالمي، وسعت ماليزيا إلى بناء برجي بتروناس للتعبير عن رفعة اقتصادها ومكانتها كدولة، ودبي اليوم تبني برجين جديدين كتحد معماري. هكذا العالم الحديث كما كان عالم العصور الوسطى، الكل يسعى إلى التعبير عن تجاوزه الآخر بالعمارة، ومثل هذه المنافسات المعمارية تعبير حضاري عن المنافسة المقبولة، من هذا المنطلق أحيت مصر في تشرين الثاني أكتوبر 2002 مكتبة الإسكندرية كمؤسسة ثقافية هدفها إرساء الحوار بين مختلف الثقافات والحضارات كما كانت المكتبة القديمة. * مدير الإعلام في مكتبة الإسكندرية