بعيداً من أفلام المسابقة الرسمية المشاركة في مهرجان دمشق السينمائي الخامس عشر، والتي تخضع لشروط وإجراءات إدارية كثيرة قد تطغى على الجانب الفني والجمالي للفيلم المشارك، فإن التظاهرات السينمائية التسعة عشرة الموازية للتظاهرة الرسمية تلفت الانتباه، وتجسد شعار هذه الدورة"بعيون السينما نرى"، وتكشف عن ذهنية تقدر الفن السابع، وتعي جماليات هذا الفن الساحر الذي تجاوز عمره المئة عام ولم يزل فتياً، قادراً على أن يدهشنا بحسب ما ذهب إليه المخرج المصري محمد خان الذي تحدث بإعجاب عن فيلم"الغفران"الذي شاهده مؤخراً، إذ علق:"بعد كل السحر الذي وجدته في مئات الأفلام، تجد أن هناك من يستطيع إدهاشك في فيلم أنتج للتو"، فالسينما، إذا، فن لا ينضب. وتكتسب هذه التظاهرات الموازية أهمية استثنائية في بلد مثل سوريا يفتقر إلى الصالات السينمائية المهيأة لعرض أفلام سينمائية وفق تقاليد عالمية معروفة، فهذه الصالات القليلة غير محدثة على رغم الوعود الكثيرة، وهي، على قلتها، لا تعرض سوى بعض الأفلام الميلودرامية الهندية القديمة، أو بعض أفلام الآكشن، أو أفلاماً تنتمي إلى النوع"المثير والمشوق"حسب التعبير الذي يكتبه أصحاب الصالات على الملصقات الدعائية، في إشارة إلى أن الفيلم الموصوف ينطوي على"قصص غرامية ملتهبة"...والواقع أن هذه الأنواع الثلاثة لا تعبر، بأي حال، عن حقيقة السينما، ناهيك عن قدرتها على صنع طقس سينمائي معافى. وفي ظل هذا الغياب السينمائي المستمر منذ سنوات، فإن تظاهرة لأفلام المخرج السويدي الكبير انغمار برغمان مثل"الفريز البري"، وپ"الصمت"، وپ"الختم السابع"، وپ"بيرسونا"، وپ"صراخ وهمسات"، وپ"الساحر"، وپ"سوناتا الخريف"، أو أخرى لأفلام المخرج الإيطالي الكبير مايكل انجلو انطونيوني مثل"المغامرة"، وپ"الليل"، وپ"الكسوف"، وپ"صورة مكبرة"، وثالثة لأفلام النجمة الألمانية مارلين ديتريش مثل"الإمبراطورة القرمزية"، وپ"الشيطان امرأة"، وپ"نشيد الأناشيد"، وپ"شعلة نيو اورلينز"، ورابعة تستعيد ذاكرة السينما العالمية عبر"الدرر الثمينة"مثل الفيلم البريطاني"الأخوات المجدليات"لبيتر مولان، والإيطالي"روما مدينة مفتوحة"لروسيللني، وپ"1900"بجزئيه لبيرتولوتشي، والفرنسي"ألعاب ممنوعة"لرينيه كليمان، والأسباني"تريستانا"لبونويل، والأميركي"المواطن كين"لأورسون ويلز... وسواها، فضلاً عن أفلام حديثة في تظاهرات مهرجان المهرجانات، وسوق الفيلم الدولي، والبرنامج الرسمي التي تعرض خلالها أفلام مهمة يصعب تعدادها، إذ يتجاوز عدد الأفلام خارج المسابقة الرسمية الثلاثمئة فيلم... نقول أن تظاهرات سينمائية من هذا القبيل تعد فرصة استثنائية لعشاق السينما في سورية، بل للنقاد والسينمائيين السوريين أنفسهم الذين يعانون بدورهم من ندرة الأفلام، ومن اهتراء الصالات... ومن هنا نجد أن الإقبال على أفلام التظاهرات الموازية اكبر بكثير من الإقبال على أفلام المسابقة الرسمية، باستثناء الفيلمين السوريين"خارج التغطية"لعبداللطيف عبدالحميد، و"الهوية"لغسان شميط، وكذلك فيلم محمد خان"شقة مصر الجديدة"، وفيلم اللبنانية نادين لبكي"سكر بنات". وبمعزل عن التقويم النقدي لهذه الأفلام الأربعة الأخيرة، فإن الإقبال نحوها يكون بدافع الفضول غالباً، وذلك لمعرفة آخر نتاجات السينما السورية والعربية، وهذا يختلف عن الدافع الذي يدفع المرء لرؤية أفلام المخرجين الكبار الذين ورد ذكر بعضهم قبل قليل. إن من يبحث عن السينما سيجدها حقاً في هذه التظاهرات الموازية، لكن ذلك لا يعفي منظمي المهرجان من ملاحظات لابد من إيرادها، ولعل الملاحظة الأولى تتمثل في محاولة المنظمين"تسييس المهرجان"، إذ يتكرر مثل هذا الهدف على ألسنة النقاد والمهتمين الذين يرون إن هذا الاحتفاء الكبير بالفنانة اللبنانية صباح، وقد بلغت من العمر عتياً، كان"احتفاء سياسياً"، وهي لم تشأ أن تخيب ظن أصحاب تلك التأويلات فقد اعتلت المنصة وراحت تتغنى، في شكل متعب، مقتضب بپ"الموقف السياسي السوري". كما أن اختيار الفيلم الأميركي"سيدة الجمال الصغيرة"المشارك في المسابقة الرسمية، لم يكن عشوائياً، بحسب التأويلات، فهو ينتقد نمط الحياة الأميركية المفتقرة، بحسب الفيلم، إلى الكثير من القيم الإنسانية. الفيلم السوري الجديد"الهوية"محمل، بدوره، بالكثير من الرسائل السياسية التي لا تخطئها العين، فعلى رغم انه يتحدث عن مسألة"التقمص"التي يؤمن بها بعض الطوائف، وعن حكاية حب حزينة، لكنه لا يغفل عن توظيف بعض المشاهد لأغراض سياسية تجذب الانتباه إلى الجولان السوري المحتل. أما وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا فقد أفصح، بلا مواربة، في حفل الافتتاح عن رؤيته للسينما إذ قال"... نريد من السينما السورية أن تنقل رؤيتنا ورؤية أمتنا العربية..."! غير أن الجواب جاء، ربما، في ثنايا كلمة مدير المهرجان محمد الأحمد الذي رأى بأن"السينما تحتفي بالإنسان مجرداً من الجنس والعرق واللون". وفي هذا السياق الذي يرى أن"المهرجان مسيس"يمكن الإشارة إلى الفيلم الوثائقي"امرأة"للمخرج الأميركي - السوري زياد حمزة الذي اشترك، كذلك، في إنتاج الفيلم مع المؤسسة العامة للسينما السورية. يتناول الفيلم سيرة حياة وزيرة المغتربين السورية بثينة شعبان بالاعتماد على مقالاتها ومحاضراتها، ويركز على نشاطها في مجال دعم حقوق المرأة، وإبرازها كشخصية قيادية تتمتع بحضور قوي في مجتمع ذكوري الثقافة. ولئن كان غياب الكاتبة السورية غادة السمان عن حضور حفل الافتتاح والتكريم، مقنعاً، بسبب الرحيل القريب لزوجها بشير الداعوق، فإن ما لم يكن مقنعاً هو غياب اثنين من المخرجين الكبار وهما الإيراني مجيد مجيدي، والروسي كارين شاخنازاروف، لا سيما وان الاثنين مدعوان لا كضيوف بل كأعضاء في لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة. وفضلاً عن هذا الغياب ثمة غياب نسبي للنخبة السينمائية المحلية والتي تضم أسماء كثيرة بينها، على سبيل المثال، محمد ملص، أسامة محمد، الفنان السوري غسان مسعود الذي شارك في أفلام عالمية... وغيرهم. وعلى رغم أن مهرجان دمشق السينمائي يطمح لأن يكون دولياً. لكن هذه"الدولية"لها شروط: أن يقام المهرجان سنوياً وقد تحقق ذلك بدءاً من هذه الدورة، وان يكون البلد الذي ينظم المهرجان تتوفر فيه صالات عرض مناسبة، وهذا الشرط لم يتحقق بعد، أما الشرط الثالث فيتمثل في ألا تخضع الأفلام المشاركة في المهرجان لأية رقابة، ومن أي نوع كان، غير أن أحد أعضاء لجان مشاهدة الأفلام المشاركة في الدورة الأخيرة هذه، والذي اشترط إغفال اسمه، كشف عن أن"الرقابة، وإنْ كانت متساهلة جداً، لكنها كانت موجودة، فقد حذفنا كل ما من شأنه أن يثير الشك والريبة في المجال السياسي والديني والأخلاقي"، وقد تكون هذه الرقابة، في بعض الأحيان، مبررة، لكن الطموح إلى كسب الصفة"الدولية"يتطلب إلغاءها، أو العدول عن هذا الطموح.